مصطلحات نقدية خاطئة
الجزء الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللغة النقدية بحاجة إلى دقة لأن النقد ليس مجالًا للبلاغة المجازية بل للتحليل العميق. كثير من المصطلحات تُستخدم كزينة خطابية أكثر من كونها مفاهيم مُنتجة للمعرفة. المشكلة ليست في المصطلحات بحد ذاتها، ولكن في تحولها إلى “كليشيهات” تُستخدم بلا تمحيص. النقد الجيد هو الذي يُوظف المصطلحات بوعي، لا الذي يُغرق النصوص النقدية بعبارات تبدو جذابة لكنها لا تضيف شيئًا جوهريًا.
هناك العديد من المصطلحات التي تُستخدم في النقد الأدبي لكنها تبدو إما متكلّفة أو غير دقيقة، أو أنها تحمل دلالات مضلِّلة. بعض هذه المصطلحات جاءت من الترجمة الحرفية لمفاهيم غربية دون مراعاة الفروق السياقية، وبعضها نتيجة لاجتهادات تنظيرية مبالغ فيها. سأناقش بعض هذه المصطلحات مع نقدها:
1. تشريح النص
هذا المصطلح مستمد من المجال الطبي، ويُوحي بأن النص كائن حيّ يمكن شقّه وتفكيكه كما تُشرّح الجثث. المشكلة هنا أن هذا المفهوم يحمل بعدًا آليًا صارمًا، يُعامل النص كجسد ميت، مما يتناقض مع فكرة أن النص الأدبي كيان دينامي متجدد في كل قراءة. النقد ليس عملية “تشريح” جثّة بل هو تفاعل بين القارئ والنص، حيث تُعاد صياغة دلالاته باستمرار.
2. خيانة النص
يُستخدم هذا التعبير غالبًا للإشارة إلى تأويل يُنظر إليه على أنه ينحرف عن مقاصد المؤلف. المشكلة في هذا المصطلح أنه يحمل بُعدًا أخلاقيًا لا يتناسب مع طبيعة النقد الأدبي. لا يوجد نص مقدّس لا يحتمل التأويل، بل إن كل قراءة هي “خيانة” وفق هذا المفهوم، لأن أي تفسير يتجاوز حرفية النص إلى معاني أوسع. فهل نعتبر كل قراءة جديدة خيانة؟ هذا يُفضي إلى مأزق.
3. التشظي
يُستخدم هذا المصطلح في سياق الأدب الحديث للإشارة إلى التقطيع والتفكك في السرد أو اللغة. المشكلة أنه بات يُستخدم بطريقة فضفاضة، حتى صار يُطلق على أي نص غير خطي أو يحتوي على جمل قصيرة. ليس كل تفكك في البناء السردي يعني “تشظّيًا”، فقد يكون هناك منطق داخلي شديد الترابط خلف هذا “التشظي” الظاهري. استخدام المصطلح بهذا الشكل قد يُعطي انطباعًا بأن النص مجرد فوضى، بينما هو في الحقيقة قد يكون مشدودًا بطريقة أكثر تعقيدًا من السرد التقليدي.
4. لعبة المعنى / اللعبة السردية
هذه المصطلحات تُوحي بأن النص فضاء عبثي، وكأن المعنى في النصوص مجرّد لعبة تُحاك دون أن تكون هناك بنية معرفية أو دلالية تحكمها. المشكلة أن بعض النقاد يستخدمونها لوصف أي نوع من التجريب أو الغموض في النص، مما يجعلها عبارة إنشائية أكثر منها تحليلية. نعم، هناك أحيانًا “لعب” بالسرد أو بالمعنى، لكن النص ليس مجرد “لعبة” بل هو تجربة جادّة في تشكيل وعي القارئ وإشراكه في اكتشاف أنماط جديدة من الفهم.
5. التداولية النصية
هذا المصطلح مستورد من نظريات التداولية في علم اللغة، لكنه يُستخدم في النقد العربي بطرق غامضة أحيانًا. المفهوم الأصلي للتداولية يرتبط بالسياق الاجتماعي والتواصل، لكن بعض النقاد يوظفونه بشكل غير دقيق ليُشيروا إلى كل ما له علاقة بالقراءة والتلقي، مما يطمس الفرق بين التداولية النصية والتلقي النقدي أو التحليل البنيوي.
6. الموتيف / الحضور والغياب
كلمة “موتيف” مستعارة من الفرنسية (motif) وتعني العنصر المتكرر في النصوص، لكنها تُستخدم أحيانًا بلا تحديد دقيق، حتى صار بعض النقاد يُدرجون أي عنصر متكرر تحت هذا المصطلح دون تمييز بين الإشارة النصية والمفهوم الثقافي. كذلك، تعبير “الحضور والغياب” أصبح استخدامه فضفاضًا، ويُقحم أحيانًا حتى في تحليلات لا تتطلبه، مما يجعله أقرب إلى الزخرفة اللغوية منه إلى الأداة النقدية.
حيدر الأديب