خاطرة :
نافذة
===========
منذ طفولتي كانت أمي تكرر على مسامعي تحذيراتها الحازمة: “لا تقترب منها لا تتحدث إليها” كانت كلماتها تحمل خوفًا غامضًا لم أفهمه يومًا وكأن اقترابي منها قد يجرّ عليّ لعنة لا تُرى، لم أكن قد تجاوزت السادسة عشرة حينذاك بينما هي رغم بلوغها الخامسة والأربعين ظلت تحتفظ بجمالٍ خارج الزمن كأن السنين تهادت على ملامحها برفق أو منحتها امتيازًا خفيًا ربما كان سرّ ذلك أنها لم تُنجب أو أن زوجها ذاك الرجل الصارم الذي لا يبتسم أبدًا و الدائم الغياب عن البيت لطبيعة عمله المجهول كان محض ظل ثقيل في حياتها،
كنت أراها أحيانًا واقفة عند عتبة منزلها الكبير ذلك المنزل الذي بدا غريبًا وسط بيوت الحي المتواضعة كان في حضورها شيء يشدني دون إرادة كأنها تنتمي لعالم آخر ومع ذلك لم تلتفت إليّ يومًا، لم تكن تراني سوى عابر لا يعنيها مجرد ظل يتحرك على الرصيف،
في تلك الليلة تأخرتُ في العودة كان الحي غارقًا في السكون والمصابيح تلقي ضوءها الخافت على الشوارع الخالية حين مررتُ بجوار منزلها لم تكن هناك هذه المرة واصلتُ طريقي قبل أن يخترق السكون صوتٌ ناعم لكنه نافذ كالأمر:
— “أنت، أيها الفتى!”
التفتُ وجدتها تقف على مقربة اجتاحني شعورٌ مربك خليط من الدهشة والرهبة لكنني لم أستطع سوى الاقتراب قالت بصوت هادئ، لكنه محملٌ بشيء يصعب مقاومته: — “هناك باب في منزلي… لا يُفتح بالمفتاح.”
كأن الكلمات كانت تعويذة تبعتُها دون تفكير دون أن أسأل كيف ولماذا؟ وحين دلفتُ خلفها إلى الداخل لم أجد بابًا موصدًا ولا مفتاحًا ضائعًا وجدتُ شيئًا آخر تمامًا،
كان الهواء نفسه مختلفًا نابضًا بطاقة غريبة كأنني لم أعد في العالم ذاته الذي جئت منه كأن العتبة التي عبرتها كانت فاصلاً بين واقع أعرفه وواقع آخر لم يكن يفترض بي أن أراه
حينها أدركتُ أن بعض النوافذ حين تُفتح لا تُغلق أبدًا ولا تسمح لك بالعودة كما كنت.
عبد الكريم حمزة عباس. ===============