قراءة نقدية للنَّص: “حين يندلق الندى”
بقلم الناقدة الشعرية: زهراء حلوم
في نص الشاعر القدير: صديق أحمد صالح
طائر الفينيق@
——————
قصيدة “حين يندلق الندى” تُعتبر نموذجاً حسيا صاخباً مليئاً بالمشاعر التي تتوقد تارة وتنطفيء تارة أخرى.. تتجسد في اللغة الحسية بشكلٍ متدفق، كأن طي الكلمات والمعاني تبرهن على صراحة الفكرة ومدى عمقها..
تحلق بنا الكلمات لتأخذنا إلى عالم لا متناهي يجمع بين القوة العاطفية وثبات المنطق، ويجمع بين الموسيقى الداخلية العذبة والتشابك العميق للمعاني..
لم يكتفِ شاعرنا المبدع في إثراء جماليات اللُّغة، بل تجاوزها ليصل إلى عمق بحر المعاني و متجاوزاً حدود الابهار ساكناً بؤرة النفس وخلجاتها التي تتلاطم في مدى العلاقات الإنسانية
وأثناء قراءتي للنص لاحظت وضوح الأفكار الفلسفية مع الحس الجمالي المترف، مما يجعله نصاً يستحق التأمل والتدبر على مستويات متعددة.
… حين ينْدلقُ الندى..
أناديك…
باسم النُهى
ياأُنثى …
الربيعِ…
وماأولَّى..
الألى!!!
رشي حكاياك ..
مع غناء القبرات ..
على تخوم الغيم….
وانتباهات..
الأقاح..
على مد النظر…
ما استكانت….
للرياح…
وماتعب…
المدى….
من ثناياك
تهمي دموع ..
الجلنار….
في البداية اعتمد الشاعر على الاستعارة المركزية هي “الندى” الذي يتدفق أو يندلق، وهي صورة تحمل في طياتها دلالات عديدة، منها النقاء، والصفاء، والبداية الجديدة، تشبيه المرأة بـ”أنثى الربيع” يضفي على النص طابعاً رومانسيًّا ويعزز من حضور الطبيعة كرمز للحب والجمال، كما أن استخدام مفردات مثل “البلبل الصداح” و”الفراشات” و”الغصون المائسات” يضفي على النص طابعاً مشهدياً وبصرياً حياً، حيث تنبض الطبيعة بالحياة والحركة
يتسم النص الشعري ” في بنيانه أنه ضمني يمثِّل انعكاساً للحالة النفسية التي يحاول الشاعر نقلها، حيث يبدو وكأنه يتدفق بانسيابيةٍ تماثل سيل النَّدى المذكور في العنوان، هذا الأسلوب الذي يختلج الكثير من التشبيهات والصور يمنح النّّص طابعاً من السيولة والترابط العاطفي، رغم ما قد يبدو من تشظي على مستوى الشكل الظاهري.
أآاااه…
ناأار ..
فيحتدم
الشذا..
هَلُمِّي.
عانقي…
سُحبَ الفضا..
حتى تشف أمشاجه..
وامتشقي …
سيفَ الهُدى..
ولاتجرحي خدَّ..
المساء حتى ..
حتى تمتلئ أوداجُهُ..
ويَنْبََحَّ النِدا .
نجد أيضاً أن الشاعر يعتمد على الجرس اللفظي وتكرار الأصوات بشكل يجعل النّّص أقرب إلى القطعة الموسيقية، الإيقاع الداخلي ينبع من تكرار الحروف والأصوات مثل “آاااه” و”هَلُمِّي”، مما يخلق موسيقى داخلية تعزز من حالة الانسياب العاطفي الذي يميزه، يتَّعمد بذكائه الشعري عن طريق التوصيف استخدام الحروف المتحركة والمشددة مثل (ر) و(ص) و(ش) لخلق تناغم صوتي يتناسب مع الحالات النفسية التي يُعبِّر عنها، من الحب والشوق إلى الألم والحزن.
ماأعقلَ القطرَ…
وماأجنَّ السحرَ..
حين يندلقُ الندى..
عن شفاه الصبح…
وتأتلق القفارُ..
في صحو المواعيد..
وماأدراني..
ماخطبُ ..
حبيبتي..
يفترُّ ثغرُها…
عن لون فتنتها..
حين تمزمزُ الفراشاتُ..
على شهد الرحيق
في ثغورَ الورد…
والبلبل الصداح..
يحطَّ على الغصون ..
المائسات…
يشدو ..
يتلجلج نبض…
الخوافق …
وينبلج النور…
من رماد …
الانطفاء.
من الواضح أن النص متناغم في الصُّور الشعرية لتخلق شيخصت لوحة صريحة، على سبيل المثال، انتقال الشاعر من الحديث عن “الندى” إلى “السيف” ثم إلى “القطر” و”السحر”، يمثل نوعاً من التسلسل المنطقي والعاطفي…
فيرخي تارة بمعاني شفيفه ويشُّدُ بمفارقة شعرية تارةً أخرى وهذا واضح من خلال الانتقال من الرقة إلى القوة ومن الغموض إلى الوضوح، مما يبرز براعة في انعكاسات بناء الصورة الشعرية المتكاملة، تتداخل هذه العناصر في تناغم يجعل النص وكأنه رحلة عاطفية وفكرية يسافر فيها القارئ مع الشاعر بين المشاعر والأفكار.
كما أن التكرار كأداة لتعزيز العاطفة والروح الشعرية في النص، التكرار هنا ليس مجرد أسلوب بلاغي، بل هو جزء من البناء الموسيقي والنفسي للنص، تتكرر بعض العبارات والمفردات مثل “آاااه” و”حين” و”تمتلئ”، ليعكس الشاعر حالة من التماهي والتكثيف العاطفي، حيث يتضاعف التأثير العاطفي للقصيدة على المتلقي مع كل تكرار.
وجينِ..
الاصطفاء..
إلى حدود..
المستحيل
والماوراءِ..
ويختلج الشرود..
ويرتجعُ الصدى..
من اجتراح..
جمر الضلوع…
ومااهتدى..
أواااه.
آااه..
ياصمتاً..
من صمت تشظى..
من حوافي البوح..
فكانت الولادة..
والمرادُ..
والمبتدا.
طائر الفينيق .(صديق أحمد صالح)..
11 . 7 . 2024
————————-
لدى النص نبرة تأملية تعكس حالة من التماهي مع الكون والوجود، العودة إلى فكرة “الصمت” في النهاية، الذي “تشظى” من حوافي البوح، تشير إلى أن كل ما تم التعبير عنه في النص ما هو إلا محاولة للوصول إلى حقيقة أعمق وأكبر وهو خوض عميق في أغوار النفس.
يحوي النص دلالات فكرية وفلسفية وجمالية في آنٍ معاً ويتماهى ليشكل تجاذب فكري معقد وذلك عن طريق طرح أسئلة تختص بالوجود الإنساني الحقيقي وما يتبعه من مفاهيم وجودية.
في النهاية أشكر شاعرنا المبدع والقدير لاختياره لي قارئة لنصه الذي شرفني الخوض في أغواره ومعانيه وأبعاده الفنية وأتمنى أن أكون قد وفقت في قراءتي المتواضعة.