الكتابة الشعورية وروابطها السردية
قراءة لقصة “شهادة مستحيلة”
للأستاذة حبيبة محرزي
Habiba Meherzi
____________________________________________
🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸
الكتابة الشعورية من أصعب الكتابات، حيث تتركز بمجملها على العاطفة، لتشعر وأنت تقرأ وكأن شحناتٍ مختلفة من المشاعر تسيطر لتدفعك للمتابعة وأحياناً الخوف والقلق لتنتهي بالبكاء…
صراحة نصوص الأستاذة حبيبة ككل تهتم بالهم النسوي الجندري، فقلمها المدافع الأول عن حقوق المرأة المسحوقة من هنا وهناك، وخاصةً في النصين الأخيرين والذين قرأتهما مؤخراً “اللطيم/وهذا النص “شهادة مستحيلة”
وكلاهما اشتركا بالسارد العاطفي الصادق “روح الطفل أو الجنين الذي ينتهي بالموت …
والسؤال الذي يتبادر لذهني هنا، لماذا هذا السارد؟
هل لزيادة الشحنة العاطفية، أم للمصداقية، أو لأنه اللصيق الواضح الصادق الشاعر بمشاعر تلك المظلومة مجتمعياً ونفسياً وروحياً ومعنوياً وأسرياً “الأم”
وبالعودة إلى النص :
_______________
أبدأ من العنوان العبقري “شهادة مستحيلة”
شهادة صادقة وكأننا أمام مرآة أو كاميرا ولكن “لن يُعتدّ بها”لذا فهي مستحيلة…
★الأم المظلومة المرهقة الثابتة انهارت لتصبح “مجرمة قاتلة”
وفي مجتمع ذكوري من سينصفها ياترى؟
طفلها الحبيب مات، بهفوة أو سقطة أو إغماءة جسدية لا إرادية، هدها التعب ولا يوجد كتف تستند عليه.
“كتابة شعورية عاطفية نفسية بامتياز”
الطفل الميت “شاهد خفي” تكلّم عن المسؤوليات الجمّة التي على عاتقها والتي لاتنتهي إلا في آخر الليل…
*عمل خارج المنزل/مدير ذكر قاسي/زوج ذكر إتكالي/
بالإضافة لمهامها التي لاتنتهي داخل البيت لتُبقي ذلك البيت دافئاً وأسرياً قدر الإمكان …
لن تستطيع، فالحمل ثقيل، الزوج مغيب، والمجتمع قاسٍ لايرحم…
★الرابط الخفي ببن الرضيع وأمّه “علاقة ثابتة وقوية “شعوربة عاطفية بامتياز”
الطفل الرضيع تشعر به أمه المغيبة عنه قسراً لظروف العمل وغيرها، تتذكره بشعور الأمومة الذي أوجده الله سبحانه وتعالى في قلب الأم، وهذه العبقريّة الثانية والتي منحت للنص شحناتٍ مضاعفة مرّات ومرّات من العاطفة الشعورية الدفاقة…
إذن نقطتين مهمتين حتى الآن رفعت وأنجحت “الطريقة العاطفية”
*العنوان العبقري
*السارد العبقري
ثم ماذا؟
★مسيرة حياة طفلٍ ساردٍ رضيع في آخر يوم له من حياته القصيرة /الكاميرا التي ترصد حياة امرأة عاملة، أمّ منهكة ووحيدة في وسطٍ اجتماعيّ وبيئيّ وأسريّ ظالمٍ وأعمى
الكاميرا “الطفل الميت” وهذه الحقيقة الوحيدة،
لكن من سيصدقها؟ فهي شهادة مستحيلة ولن يتعاطف معها إلا قلة قليلة ممن هم في مثل وضعيتها فقط “قضايا جندرية نسوية”…
*ماذا لو كان الزوج أكثر تفهما وتعاونا؟
*ماذا لو ساعد طفلته في حل واجباتها؟
*ماذا لو خفف من فوقيته وتعنته الرجولي وقام ليأكل وحده أو يساهم ربما، ولا يكون عبئاً إضافياً آخر فهو ليس ولداً رضيعاً وليس معاقاً، بل المجتمع الظالم من أعطاه دور المعاق الذي لا يعمل شيئاً سوى الطلبات والتذكر والاتهام والاتكالية
★الجريمة
_________
*هل كان موت الطفل جريمة الأم المنهكة؟
*هل كان جريمة مجتمع وزوج ورب عمل ؟
المعادل الموضوعي للطفل “الميت”/العصفور الأبكم
الزوج الظالم شعر به وبجوعه ولم يشعر بابنه الذي يبكي جوعاً وإهمالاً…
حقيقة نص كتب بنبض القلب وبدفقة شعورية نادراً ما أجدها في النصوص
تهنئتي أستاذة حبيبة وإلى المزيد
ريم محمد
_______________________________________
النص
——–
شهادة مستحيلة
أودعتني أمّي المحضنة ومضت مغضّنة الملامح بعد أن أوصت بي خيرا كلّ المربّيات خاصّة في هذا اليوم المخضرم الّذي بدأته بين أحضان أمّي وأنهيته على حشيّة في ركن ما من الأرض.
تمضي أمّي متعتعة تتلفّت وراءها. خيط وهميّ شفّاف يربط بيننا رغم الحواجز والضّوضاء.
تدخل مكتبها لاهثة فتتلقّفها زميلتها:
_لم تأخّرت الأستاذ يسأل عنك.
تهبّ إليه ، تسلّم فيردّ ببرود. يومئ إلى حزمة دفاتر دون أن يرفع بصره عن الأوراق المبعثرة أمامه :
_ستذهبين إلى محكمة الاستئناف لتطلبي تأجيل القضيّة… ثمّ تسرعين إلى شركة التّأمين لاستخراج الوثائق ثمّ ثمّ….
تحتضن حزمة الملفّات وتنقذف في الطّريق وصورتي بين طيّاتها تنتصب على أوّل دفتر وتظلّ تقفز بين الحافلات والإدارات والمحاكم. ويضجّ فكرها بالمنبّهات والضّوضاء وينزّ اللّبن من صدرها ويتقاطر على الأرضية العفنة . تسرع متألّمة بينما تتمطّط شفتاي يمينا يسارا بحثا عن حقّي الطّبيعيّ الّذي يضيع هدرا فألوك أصابعي وأبكي.
عند الظّهر تعود بي إلى الدّار. تصعد الدّرج حافية وحذاؤها يتدلّى بقربي وعلى كتفها صرّة أدباشي وحفّاضاتي وأنا أرقد آمنا، أشمّ رائحة عنقها المبلّل عرقا فأهدأ وأمنّي النّفس بأنّ ما حصل هذا اليوم لا يعدو أن يكون حلما مزعجا.
تلقي بي على فراشها. تغيّر بعض ملابسها وتجري إلى المطبخ. تضع أواني وترفع أخرى ويُسكب ماء وتُقرع أبواب. وأسمع أبي يدخل سائلا عن عشائه. فتعوي أمعائي وأبكي وأصيح وأمعن في العويل فتهبّ إليّ صاغرة مقرّعة نفسها على هذا التّهاون في حقّي وتلقمني حلمة ثدي تحجّر لبنه. فأمتصّ امتصاصا فوضويّا. ويتسلل الهواء إلى أحشائي فأعوي. فجأة تتسرّب إلينا رائحة منكرة. تقذفني على الفراش وتجري إلى المطبخ فتغيّر الآواني الّتي احترقت محتوياتها. تحاول أن تنقذ ما أمكن من اللّحم والخضر. وأبي يصرخ من كنبته مستفسرا. وأمّي تفتح النوافذ لتجديد الهواء. ويتعشّى أبي ساخطا غاضبا.الطّبيب نصحه بمزيد من الخضر. وتعتذر أمّي عن هذا التّقصير الآثم.
وتمضي إلى المطبخ من جديد تغسل المواعين وقربها أختي تنغنغ طالبة منها حلّ مسألة رياضيّة مستعصية فتوجّهها إليه.تعود باكية:
_أبي طردني، قال لي :اتركيني أتابع المقابلة. اذهبي إلى آمّك.
وتعتذر أمّي وتمسح دموع أختي وهي تجفّف يديها في أطراف ثوبها وتبدأ بالتّفسير والتّحليل ويتبلّل كرّاس أختي فتصيح وتبكي وتعتذر أمّي واعدة إيّاها بتجديد الكرّاس. وتشترط أختي أن يكون ذلك اللّيلة كي تسلم من عقاب المعلّمة. ويزعق أبي طالبا الشّاي ويسأل أمّي إن كانت قد وضعت الزّوان والخسّ لعصفوره المدلّل. تنشب المعركة بسبب تهاون أمّي في حقّ عصفور ضعيف أبكم.
وأسكت. أتنازل عن حقّي الطّبيعي. فألوك إصبعي لكنّ أحشائي ترفض المغالطة وتعيّرني بالضّعف. تحرّضني على البكاء والعويل. تذكّرني بحقّي الطّبيعي لكنّني أعتنق الصّبر. ستأتي أمّي ونلعب ونضحك وسأشبع لبنا حتّى يترقرق في حلقي. يمرّ الوقت وتجمع آختي أدواتها وتتسلّل إلى فراشها وهي تصيح طالبة من أمّي نقل الكرّاس المبلّل قبل أن تنام. وأنتظر. وتهبّ أمّي إلى بدلة أبي تكويها لأنّ له موعدا هامّاغدا. ويجفّ حلقي وتعوي أحشائي. وأنتظر. لم يعد إلاّ القليل. أفتح فما يابسا وأؤجّل النّداء وقد يغزوني النّوم فأهمد برهة. السّاعة منتصف اللّيل ولا أحد بعدُ بجانبي. آستفيق على حفّاظتي تنزع وإذاهي أمّي تحويني وتدسّني قربها وهي تلقمني ثديا ساخنا فبتدفّق اللّبن إلى أحشائي ثمّ لاتلبث أن تتهاوى أطنان من الثّقل.
اأطنان تحطّ على وجهي الصّغير فأحاول أن أزيح الثّقل كي لا تبكي أمّي في الغد. لكنّ يديّ الضّعيفتين تعجزان أمام ثقل هموم أمّي وأتعابها. تعوي مداخلي وتضجّ طالبة النّجدة… وأهمد وتُخمد أنفاسي وأمّي بقربي وليست بقربي. وأفنى لتُقضى أمور المحامي وينعم أبي بمقابلته الرّياضيّة وتُحلّ مسائل أختي الحسابيّة ويُجدّد كرّاسها ويأخذ العصفور الضّعيف الأبكم نصيبه. لكنّني أرحل وأنا خجل من دموع أمّي الّتي سترتسم على الاسفلت ممززجة بلبنها الّذي لن يجفّ ألاّبعد أسابيع من الشّقاء والألم النّازف. سيلومونها ويتّهمونها بقتلي تقصيرا وتهاونا . سيبكي أبي من أجلي وستقف هي خسيسة ذليلة وأعجز عن الدّفاع عنها عجزا أبديّا.
حبيبة المحرزي