كتب رياض الفرطوسي
منذ أن نبصر النور، تتلقفنا الأعين وتحاصرنا الأحكام، فالمجتمع ليس مجرد تجمع بشري، بل هو سلطة متغلغلة في كل تفاصيل الحياة، من نظرات الجيران إلى همسات العائلة، من مقاعد الدراسة إلى طاولات المقاهي. الجميع يُراقب الجميع، والأرشيف لا يتوقف عن التكدس، ليس في أيدي الملائكة كما كان يُعتقد، بل في عقول البشر التي لا تنسى ولا تغفر.
لكن ما بين الوصاية والقمع، وبين الرقابة والتربية، تبرز معضلة كبرى: كيف نوازن بين الحرية الفردية والحفاظ على قيم المجتمع دون أن يتحول الأمر إلى استبداد؟ في العقود الأخيرة، بدأت هذه الحلقة بالانكسار تدريجياً، وازدادت مساحة الحرية، لكن مع هذه الحرية ظهرت إشكاليات أخرى، حيث التبست المفاهيم بين التحرر والانفلات، وبين الاستقلالية والاستهتار. وهنا تبرز أهمية التمييز بين الرقابة المدروسة التي تهدف إلى تربية جيل واعٍ، وبين السيطرة المطلقة التي لا تنتج سوى شخصيات مشوهة.
السلطة ليست فقط حكومة بأجهزتها الأمنية، بل هي شبكة معقدة من الأوصياء، تبدأ بالعائلة وتنتهي عند أدق تفاصيل الحياة اليومية. قوانين غير مكتوبة تتحكم في الملبس والمشية، في طريقة التفكير والتعبير، في من نحب ومن نتزوج، حتى في كيفية الجلوس والتصرف في اللحظات الأكثر حميمية. كل حركة محسوبة، وكل خطوة مرصودة، والخروج عن المألوف يعني التعرض للنبذ والتشهير.
نحن لا نعيش، بل نمثل أدواراً مفروضة علينا. الخوف من نظرة المجتمع يجعلنا أسرى في سجون غير مرئية، فنُبرمج منذ الطفولة على الطاعة والخضوع، حتى تتحول القيود إلى جزء من جيناتنا، كما أثبتت دراسات علم الوراثة. يولد الخوف قبل الوعي، ويترعرع معنا كظلٍّ لا يفارقنا.
لكن المعضلة الكبرى تكمن في أن الجاهل أو قليل التعليم يمارس قمعاً على أولاده وعائلته تحت عنوان الإشراف والتربية، ظاناً أنه يحميهم، بينما هو في الحقيقة يهدم شخصياتهم ويزرع فيهم عقداً قد تلازمهم مدى الحياة. التربية مسؤولية دقيقة، تحتاج إلى وعي عميق بأبعادها، فلا يمكن الخلط بين التوجيه والتسلط، ولا بين الحماية والهيمنة.
الأب يُلقّن، والأم تُراقب، والمدرسة تُروض، والأصدقاء يفرضون معاييرهم، والشارع يحكم. هكذا يُصنع الفرد في المجتمعات المغلقة، حيث القيم تتغير بين عشية وضحاها، وحيث التحولات السياسية تنسف كل شيء دون سابق إنذار. في دول العالم الحديث، يتغير الوعي ببطء، عبر حوارات وتطور طبيعي، أما هنا، فإن التغيير يعني انقلاباً جذرياً، ومعه يأتي الخوف والضياع.
حتى النخبة الثقافية لم تنجُ من هذه الشبكة الخانقة. المفكرون والمثقفون الذين يُفترض أن يكونوا طليعة التغيير، انكمشوا داخل انتماءاتهم الضيقة، فتوزعوا على الطوائف والقبائل، بدل أن يكونوا صوت الحرية والتمرّد. وهكذا، بقي النظام الاجتماعي يمارس سلطته المطلقة، يُنتج الخانعين، ويضخ المزيد من الطغاة.
في زمن تُرصد فيه كل حركة عبر التكنولوجيا الحديثة، لم يعد هناك مكان للاختباء. كل شخص يحمل أرشيفه على كتفيه، يخضع لمحكمة لا تستمع إلى الدفاع، ويواجه حكماً نهائياً لا نقض فيه. حتى من يعيش في المنافي لا ينجو من ملاحقة أبناء بلده، فالرقابة ليست جغرافية، بل متجذرة في النفوس.
إن القمع بأوجهه المختلفة ليس مجرد فعل خارجي، بل يتحوّل إلى صوت داخلي يجلد الذات كلما فكرت في الانحراف عن السائد. وهنا تكمن المأساة الكبرى: أن يصبح الفرد حارساً على نفسه، يُعيد إنتاج القمع ذاته الذي اشتكى منه.
لكن الدرس المستفاد من المجتمعات الأخرى هو أن الحرية تحتاج إلى وعي، وإلى بناء فكري متين قادر على استيعابها دون أن تتحول إلى فوضى. المطلوب ليس هدم القيم أو نسف كل الضوابط، بل إعادة النظر في مفهوم الوصاية والرقابة، بحيث تصبح وسيلة لحماية الفرد لا سجناً يخنقه.
غير أن ثمة جداراً عازلًا يمنعنا من رؤية العالم كما هو، ويفصلنا عن الفكر والثقافة والانفتاح الحقيقي. لم يكن هذا الجدار يوماً مصنوعاً من الطوب والإسمنت، بل من تراكمات فكرية ومجتمعية صنعت سياجاً غير مرئي يحاصر العقول قبل الأجساد. ربما هناك من يريدنا أن نظل تحت هذا السقف الواطئ، بعيدين عن الإبداع والتنوير، محرومين من أن نطل برؤوسنا على ما يجري حولنا. فكيف نكسر هذه الحلقة ونحطم هذا الجدار؟ كيف نتحرر من الأوصياء الذين يسكنون داخلنا قبل أولئك الذين يحيطون بنا؟ هذه هي المعضلة التي لم تُحل بعد، وربما لن تُحل ما لم يُكسر هذا الإرث المسموم، وما لم يجرؤ الإنسان على أن يكون ذاته، لا ما يُراد له أن يكون.
Discussion about this post