عبد العزيز بدر عبد الله القطان*
في عمق التاريخ الإسلامي، نشأت مدرسة فكرية متفردة جمعت بين صرامة الفقه ورحابة السياسة، بين تعقيدات الواقع ومثاليات الشريعة، حيث لم يكتف أحد المفكرين الكبار بمجرد تفسير النصوص أو ترديد أحكام الأئمة السابقين، بل انطلق ليؤسس خطاباً عقلانياً يتجاوز حدود اللحظة ويستشرف ملامح الدولة الرشيدة.
تميز هذا الفكر بأسلوب فذ، يقوم على منهج مركب لا يفصل بين الأخلاق والسياسة، ولا يعزل الفقه عن شؤون الحكم والإدارة، لقد تشكلت رؤيته من قلب التجربة، ومن تقلبات الواقع العباسي الذي شهد خلاله انهيارات وتحديات داخلية وخارجية، فاستطاع أن يبتكر تصوراً شاملاً للدولة، يُراعي فيه ضرورات العمران ومقتضيات الشريعة، دون أن يغفل عن دور الإنسان في توجيه السلطة وتحقيق المصلحة.
هذا الأسلوب الفريد لم يكن تنظيراً مجرداً بل ممارسة متزنة، استندت إلى فهم عميق لطبيعة السلطة، وآليات تقييدها بالحق، وإخضاعها لسلطان العدل، فحين تحدث عن الإمامة، لم ينظر إليها كمنصب وراثي أو شرفي، بل كمهمة تكليفية تقتضي شروطاً أخلاقية وعلمية، وحين شرح قواعد القضاء، لم يفصلها عن السياق الاجتماعي الذي يُنتج الظلم أو يطالب بالإنصاف، ومن خلال كتاباته، تبلورت رؤية واضحة لدور الدولة: دولة لا تهيمن، بل ترعى، لا تظلم بل تحكم بميزان، دولة تستند إلى بيعة الأمة، وتحاسب نفسها بمنطق المسؤولية الشرعية.
وما يميز هذا الأسلوب أكثر هو قدرته على التعبير عن المبادئ الإسلامية بلغة تتسع للممكن السياسي دون أن تفرّط في الثوابت، لغة تُعلي من مكانة العقل دون أن تهمل النص، وتؤمن بالسلطة المنضبطة لا المستبدة، وتُشدد على ضرورة تداخل الشرعية مع الفعالية في ممارسة الحكم، إنه خطاب يفكك السلطة لا ليفرغها، بل ليعيد تشكيلها على أسس الشورى والمصلحة العامة، ويُبقي الحاكم في حالة محاسبة مستمرة أمام الله وأمام الأمة.
إنه منهج لا يكتفي بوصف الدولة الفاضلة، بل يسعى لتقديم دليل عملي لبنائها، بدءاً من تنظيم مواردها، مرورًا بفهم طبائع البشر ونوازع النفس، وانتهاءً بإرساء القيم العُليا التي تحفظ تماسك المجتمع، وتضمن أن لا تتحول الشريعة إلى مجرد شعارات جوفاء، بل تكون نظاماً حياً يسري في مؤسسات الدولة، ويصنع أثراً ملموساً في حياة الناس.
ويُعتبر الإمام الماوردي شخصية مفصلية في تاريخ الفكر الإسلامي السياسي والفقهي، إذ رسخ أفكاره منذ أكثر من ألف عام جذور النظام الإسلامي والمفاهيم القانونية والشرعية التي تُستحضر في النقاشات المعاصرة، ووُلِد الماوردي في عصرٍ تَشكَّلت فيه معالم الدولة العباسية وتداخلت فيها التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فأصبح شاهداً على تحولات آنذاك، واستُخدمت تجاربه وسعيه لفهم آليات الحكم والإدارة في ظل الأطر الشرعية، مما أكسبه شهرة واسعة كفقيه متمكن ومستشار سياسي مخضرم، في زمنه، لم يكتفِ الماوردي بنقل الإرث العلمي والتقليدي للفقه الشافعي، بل سعَى إلى صياغة رؤية متكاملة للنظام السياسي الإسلامي، تجمع بين النصوص المقدسة والواقع العملي، فخطَّ مسارات الحكمة التي تجمع بين السلطة والمحاسبة الشرعية في آن واحد.
وقد تجلى هذا المسعى واضحاً في مؤلفاته التي ما زالت تُعد مرجعية أساسية، ومن أبرزها كتابه الذي يُعرف باسم “الأحكام السلطانية والولايات الدينية”، حيث عرض فيه تصوراً دقيقاً لعلاقة الحاكم والشعب، وبيَّن بذلك شروط الإمامة والوزارة والقضاء، مع وضع آليات تنظيم بيت المال والمالية العامة، مُشيراً إلى ضرورة تقييد سلطة الحاكم بحدود الشرع والمصلحة العامة، وقد جاء هذا التكوين النظري نتيجة لتجربة الماوردي الشخصية في العمل الدبلوماسي والوظيفي داخل الدولة العباسية، حيث كان مشاركاً بشكل مباشر في صياغة السياسات وتطبيق العدالة على أرض الواقع، مما أضفى على نظرياته طابعاً عملياً وشمولية فاقت النظريات المجردة التي كانت رائجة في زمانه.
ولم يكتفِ الماوردي بتفصيل مسائل الحكم والإدارة، بل تناول أيضاً جوانب الأخلاق والسلوك السياسي، مؤكدًا أن نجاح نظام الحكم لا يعتمد على مجرد تفويض السلطات فحسب، وإنما يحتاج إلى بناء شخصية قيادية ترتكز على النزاهة والعدل والتفاني في خدمة المصلحة العامة، وفي هذا السياق، يظهر تأثير كتابه “أدب الدنيا والدين”، الذي يعرض فيه العلاقة المتينة بين معاني الدين وسلوكيات الحياة اليومية، داعياً إلى تربية النفس وترسيخ قيم الأخلاق في ميادين الحكم، بحيث يصبح الحاكم، وكذلك المواطن، نموذجاً للتضامن والرحمة في آن واحد، لقد كانت رسالته تدعو إلى تحقيق تكامل بين الدين والدنيا، فلا يكون للسلطة بعد الآن بعداً مادياً بحتاً، بل يحكمها ضمير والتزام ديني يشكل جسراً للتواصل بين الشعب والدولة.
وقد أكد الماوردي في مؤلفاته الأخرى، مثل “نصيحة الملوك” وكتاباته التي تناولت مبادئ تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الحكم، على ضرورة أن يتحلى الحاكم برؤية استراتيجية مبنية على العقل والحكمة، وأن يُعامل رعيته بعدالة ومساواة، معتبراً أن شرعية الحكم لا تأتي من القوة المطلقة وإنما من بيعة الشعوب وتوافقها مع مقاصد الشريعة. كما أنه كان من أوائل المفكرين الذين أدركوا أن الشرعية السياسية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم “المصلحة العامة”، وهو مبدأ يحتل مكانة مركزية في الفكر القانوني الإسلامي، إذ يجب أن يكون كل قرار تتخذه الدولة موجهًا نحو تحقيق رفاهية المجتمع وتقليل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية.
وفي ظل التحديات المعاصرة التي تواجه العالم الإسلامي، حيث تعاني الدول من أزمات اقتصادية واضطرابات سياسية وفجوات أخلاقية، ينبثق فكر الماوردي كمصدر إلهام يستدعي إعادة النظر في نظريات الحكم والإدارة، إذ يمكن التعلُّم من رؤيته التي تدعو إلى تنظيم السلطة وترسيخ العدالة على أسس شرعية تجمع بين النص والتطبيق العملي، ففي الوقت الذي تواجه فيه العديد من الدول صعوبات في إرساء نظام حكم يحمي حقوق المواطنين ويساهم في نموهم الاقتصادي، تقدم نظريات الماوردي حلولاً ذات أبعاد متعددة؛ فهي لا تقتصر على تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بل تتعداها إلى إعادة توزيع الثروات من خلال نظام بيت المال وتفعيل آليات الرقابة التي تضمن شفافية العمل الحكومي، ما ينعكس إيجابًا على الوضع المعيشي للمواطنين ويعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.
بالتالي، إن مقاربة الماوردي في دمج الأخلاق مع السياسة، وبين الشريعة والواقع، تجعل من كتاباته مرجعاً للدراسات القانونية والسياسية في العصر الحديث، حيث يستند الباحثون والمفكرون إلى فكره لتحليل بعض القرارات الدستورية والمعايير التنظيمية المتبعة في الدول الإسلامية، فمن خلال استلهام مبادئه في تنظيم السلطة وتفعيل الرقابة المتبادلة بين الأجهزة الحكومية، يمكن للدساتير والقوانين الحديثة أن تتبنى نموذجًا يوازن بين حماية الحقوق الفردية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وإن تجربة الماوردي تُظهر أن العودة إلى أصول الفكر الإسلامي قد تكون خطوة أساسية نحو بناء نظام حكم يتمتع بالشرعية والفاعلية في آن واحد، مما يسهم في تفعيل دور الدولة كضامن للحقوق ومقدمة للعدالة الاجتماعية في مجتمع يزداد تعقيدًا في وجه التحديات الاقتصادية والسياسية.
من هنا، يبقى الإمام الماوردي رمزاً فريداً يجمع بين الأصالة والحداثة؛ فهو الرجل الذي استطاع في عصره أن يُظهر أن مبادئ الشريعة الإسلامية ليست نُظماً جامدة دون حياة، بل هي منظومة ديناميكية تستطيع أن تتفاعل مع متطلبات العصر. إن دراسة أعماله والتأمل في حكمته يشكلان خطوة ضرورية لمن يسعى إلى فهم كيف يمكن للإسلام أن يُحدث تغييراً إيجابياً في واقع الدول المعاصرة، حيث لا يكون الدين مجرد شعار بل يكون نبراساً يرشد الحكام والشعوب نحو مستقبل يسوده العدل والازدهار.
وفي ختام هذه الرحلة الفكرية التي تأملنا فيها فكراً يشد أزر العدالة ويدعو للاتزان بين ثوابت الشريعة وضرورات العصر، نجد أن هذه الرؤية التي استمدت قوتها من عمق الفقه وجوهر السياسة ما زالت صالحة وملهمة حتى يومنا هذا، إذ لم يكن هذا الفكر مجرد اجتهادات فقهية متأثرة بظروف زمانه، بل كان نبوءة لفهم أعمق وأشمل للعدالة والسلطة، وضوابط الحكم التي لا تنفصل عن مصلحة الأمة.
وفي عالم اليوم الذي يعاني من أزمات سياسية واقتصادية خانقة، يمكن لتلك المبادئ أن تشكل بوصلة حقيقية نحو بناء دولة ذات نظام قانوني متوازن، لا يسعى فقط لتحقيق العدالة، بل يُقيم الأسس اللازمة لبناء مجتمع مزدهر ومستقر.
وإن العودة إلى هذه الفكرة العميقة التي ربطت بين شرعية الحكم وضرورة تحقيق المصلحة العامة وتفعيل الرقابة على السلطة، تبقى اليوم أكثر من ضرورية. فالأزمات التي يواجهها العالم الإسلامي تتطلب أن نستلهم من هذه الرؤية مرشداً يعيد ترتيب أولوياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويجعل من الشريعة مرشداً حياً يتفاعل مع الواقع لا جامداً في الماضي، ومما لا شك فيه أن هذه الفلسفة لا تقتصر على إشراك الحكام في المسؤولية بل تعزز من دور المواطن في الرقابة والمحاسبة، وتعيد بناء جسور الثقة بين الدولة والشعب.
وفي النهاية، نجد أن فكر من أسس لهذه الرؤية لم يكن مجرد نظريات أكاديمية، بل كان دعوة عملية للعيش في عالم منظم، يتوافق فيه القانون مع القيم، والسلطة مع المسؤولية، ويظل مبدأ العدل أساساً للحكم، مما يخلق حالة من التوازن الدائم الذي لا يمكن أن يزول إلا بزواله.
*كاتب ومفكر – الكويت.
Discussion about this post