كتب رياض الفرطوسي
أن تكون نظيفاً من الداخل، لا يعني أن تخلو من الأخطاء أو العثرات، بل أن تحملها كما تحمل الأم جنينها، بحنوّ لا بإنكار، وبمسؤولية لا بندم. أن تكون نظيفاً من الداخل، هو أن تعيش في هواءك الشخصي دون الحاجة إلى قناع أو رائحة زهر مستعارة. أن تدخل العلاقات كما يدخل الضوء نافذة بلا مواربة، وكما يدخل طفل إلى حضن أمّه دون خوف من الطرد أو الشبهة.
في عمق كل كائن يتقن الصمت بكرامة، هناك نهر صغير يجري، لا يسمعه أحد، لكنك إن اقتربت من عينيه، شعرت برقرقة النقاء. هؤلاء لا يفسرون، لا يدافعون عن أنفسهم، لا يبررون اختياراتهم، لأنهم لم يصطنعوا شيئاً ليخفوه، لم يلبسوا عباءة غيرهم ليقلقوا بشأن خلعها.
في زمن يُقاس فيه الإنسان بعدد أقنعته، يصبح النقاء فضيحة، ويبدو الصدق حماقة، ويُظن العفوي طيّباً ساذجاً أو غير متعلم. لكن الحقيقة، كما قال (كيركغارد – الفيلسوف الدنماركي، 1813–1855): “إن الطهارة هي أن تريد شيئاً واحداً”. أن تكون مخلصاً لذاتك لا لأدوارك، لحقيقة صوتك لا لأصداء ما يُنتظر منك أن تقول. فالداخل النظيف لا يحتاج إلى جهد للتأثير، لأن الحضور النقي هو نفسه بيان وجود.
هل جرّبت أن تجلس مع شخص لا يُشعرك أنك في اختبار؟ لا يحصي عليك زلّة، لا يُربكك بعيونه الفاحصة، ولا يجعل حضورك امتحاناً أخلاقياً؟ هؤلاء البشر لا يتحدثون كثيراً عن الحب أو الحرية أو الأخلاق، لكنهم يعيشونها في تفاصيلهم الصغيرة: في طريقة تقديم فنجان الشاي او القهوة ، في نظرة الترحاب الهادئة، في تركك تغادر دون إحراج، دون أن يُحمّلوك وزر الوداع.
زكي نجيب محمود (الفيلسوف المصري، 1905–1993) كتب مرة أن “التحضّر هو وضوح الفكرة وصدق التعبير”. والصدق، حين يكون جزءاً من طباع الروح لا من مهارات الأداء، يشبه ضوءاً يسري في المكان ويجعله صالحاً للسكنى. تماماً كما شعر بروست بطعم الطفولة كله ينهض من فنجان شاي غمّس فيه قطعة كعك قديمة، فإن الداخل النظيف يستدعي الحياة كلها من تفصيلة هامشية: من صوت حفيف، أو إيماءة عفوية، أو دعاء هامس لا يريد شيئاً.
في الداخل النظيف لا توجد نوايا مزدوجة، ولا مشروعات خفية للسيطرة أو التزييف. كل شيء على وجهه: الضحك ضحك، والدمع دمع. لا مجاز في الألم ولا تشويه في الفرح. من لا يحيا بهذه البساطة، يعاني كما قال (إيمانويل ليفيناس – فيلسوف الأخلاق الفرنسي، 1906–1995) من “انعدام الوجوه”، إذ يغدو الآخر شيئاً لا أحد، مجرد مادة أو تهديد أو فرصة، لا مرآةً للنظر ولا شريكاً في الارتجاف البشري.
أن تكون نظيفاً من الداخل، يعني أن يكون قلبك مكاناً صالحاً للسكَن، لا ساحة معركة. أن تخرج من اللقاءات بأقل مما دخلت، لأنك لم تضطر للدفاع أو الاختباء. أن لا يلاحقك شعور بالخذلان لأنك لم تُخن ذاتك في كل لحظة، ولم تتورط في تصنع المعنى كلما التقيت أحدهم.
أمام كائن نظيف من الداخل، لا تحتاج أن تنتبه لكلماتك. لا تستعدّ لأي طعنة، ولا ترتّب أفكارك قبل الجلوس إليه. يمكنك أن تصمت مطوّلًا دون شعور بالإحراج، وأن تضحك بصوتك الحقيقي، دون أن تخشى أن يُفسَّر.
الوضوح هنا ليس مجرد “بساطة”، بل موقف فلسفي وجمالي. كل صعوبة فكرية، كما يؤمن (لودفيغ فيتغنشتاين – فيلسوف اللغة النمساوي، 1889–1951)، تنبع من التباس اللغة، لكن في الداخل النظيف لا توجد ألغاز لغوية، بل جسد يقول ما يريده دون ارتباك، ووجه لا يرتب زواياه كل صباح ليبدو صالحاً للنظر.
في عالمنا العربي، للأسف، غالباً ما ارتبطت الثقافة بالتمثيل، لا بالفهم، وبالمباهاة لا بالعمق. العامل البسيط يُظهر تواضعه على الملأ، بينما يتورّط كثير من مدّعي الثقافة والسياسة في عروض مسرحية مرهقة، لا تنتهي إلا بإرهاق الجميع وانعدام الثقة. والمفارقة أن المثقف الحقيقي، كما يُفترض، هو أكثر الناس معرفة بضعف الإنسان وبجمال نقائه، فلماذا كل هذا الزيف؟ لأننا، كما كتب عبد الفتاح كيليطو، المفكر المغربي (1945) نعيش ثقافة الأقنعة لا ثقافة الوجه، حيث “لا يُعرف القارئ من القارئ، ولا الكاتب من الكاتب”.
في الداخل النظيف، لا يحتاج المرء إلى ذاكرة طويلة ليحمي نفسه من الغدر، لأنه لم يتورط في لعبة الخداع. يكفيه أن يحمل نفسه كما هي، وأن يغادر كما دخل، دون أثر ثقيل أو بصمة باهتة. أن تكون صادقاً لا يعني أن تروي كل شيء، بل أن لا تقول شيئاً يناقضك، ولا تفعل ما يتطلب نسيانه لاحقاً.
في النهاية، أن تكون نظيفاً من الداخل، هو أن تستطيع أن تنام بوجهك الحقيقي، وأن تحب دون خوف، وأن تسير في العالم كما تسير فراشة فوق حقل: لا تحمل رسائل، ولا تزرع شكوكا، ولا تتورط في خديعة.
هي نعمة أن تجد في العمر من يمنحك هذه الحالة: أن تجلس معه وتشعر أنك في مطهر داخلي، كأنك خرجت من نبع جبلي، دون شوائب ولا إرهاق، دون أن تمثل أو تتكلم كثيراً، فقط تنظر وتتنفس وتبتسم… ويكفي.
فالحياة في لحظتها النقية، حين تنبت من طمأنينة حضور الآخر، لا تحتاج إلى شرح أو دليل، بل إلى قلب نظيف… فقط.
Discussion about this post