قراءة نقدية:” القصيدة بين متعة التناص ومتعة الإبداع”
القصيدة: “أسيرٌ في متاهات شجوني”
الشاعر: د. رفعت شميس (سوريا)
الناقدة:جليلة المازني (تونس)
المقدمة:
ان قصيدة “أسيرٌ في متاهات شجوني” للشاعر السوري د.رفعت شميس محكومة بثنائية التناص والإبداع باعتبار أن التناص لا ينفي الابداع.
القراءة النقدية: “القصيدة بين متعة التناص ومتعة الإبداع”
1 – تجليات التناص بالقصيدة:
أ – مفهوم التناص:
“والتناص عبارة عن مجموعة من العلاقات التي تتضمن التلميح والاقتباس والاشارة والتضمين وظهر ذلك عند العلماء الغربيين مثل جوليا كريستيفا وميخايل باختين”(1).
يرى بعض النقاد أن “التناص هو مصطلح نقدي يشير إلى العلاقة بين نص وآخر أو بين عدة نصوص حيث يتفاعل النص الجديد مع نصوص سابقة بطرق مختلفة سواء بالتقليد أو المحاكاة أو التجاوز فيعتبر النص الجديد نتاج تفاعل مع نصوص سابقة”.
ب – العنوان “أسيرٌ في متاهات شجوني”
أسند الشاعر عنوانا لقصيدته “أسيرٌ في متاهات شجوني”
لقد ورد العنوان جملة اسمية استخدم فيها الشاعر أسلوبا انزياحيا تركيبيا قائما على التقديم والتأخير فقدم الخبر على المبتدإ للتأكيد على مدى أسْرِه في متاهات شجونه.
والشجون جمع شجن وهو الهمّ والحزن ويقال :” هذا حديث ذو شجون” أي أنه حديث متفرع ومتشعب يستدعي بعضه بعضا(شجن – ويكيبيديا).
وفي هذا الاطار:
– أية شجون متفرعة ومتشعبة يتيه فيها الشاعر؟
– أية متاهات شجون هو أسيرها؟
إن الشاعر من خلال العنوان يبدو أنه يعيش تِيها وغربة نفسية بسبب شجونه وهمومه الوجدانية.
وفي الحديث عن الشجن والشجون يقول ابن زيدون:
هل تذكرون غريبا عاده شجنُ؟// من ذكركم, وجفا أجفانه الوسنُ
يُخفي لواعجه والشوق يفضحه // فقد تساوى لديه السر والعلنُ
ج- التحليل:
استهل الشاعر قصيدته بخطاب على لسان الحبيبة وهي تتوجه الى خليلها قائلة:
خليلي- هل توسدك العذاب
وأرهبك الفراق بما يهاب؟
لقد جعل الشاعر الحبيبة تتوجه لحبيبها وهي تطلق عليه صفة “خليلي”
و” الخلة تعني الخليل أي رفيق الروح وهي من أعلى درجات الحب, فعندما يصبح شريكك خليلك يعني أنكما وصلتما لدرجة التطابق المثالي وأنكما أصبحتما روحا واحدة.”(2).
والشاعريتناص مع العديد من الشعراء في معنى الخليل:
– يقول جميل بثينة:
قومي ,بثينة فاندُبي بعويل// وابْكي خليلك دون خليل.
– يقول الشاعر أبو الفضل بن الأحنف:
وكنا آية للناس دهرا// اذا وصف الخليلة والخليلُ
لمثل هذا لعمري // يرجو الخليل الخليلُ
– يقول ابن الرومي:
اذا دعا منه خليل خليله// بأفديك لباه مجيبا فأسرعا
يقول البحتري:
لا تلمْه على مواصلة الدمع// فلؤمٌ لوْم الخليل الخليلا
– يقول الشاعر أبو العتاهية:
سيُعرَض عن ذكري وتنسى مودّتي// ويحدث بعدي للخليل خليلُ
– يقول أحمد شوقي:
إن دمعا تذرفن إثر رفاقي // سوف يبكي به الخليل الخليلا
ان الحبيبة تستنكر على خليلها مدى تعذيبه لها بل تجعله بين رهبة وهيبة الفراق …انها تعاتبه .
والعتاب بين الحبيبين يشي بمدى الحبّ فبقدر الحب يكون العتاب.
والشاعر هنا يتناص مع نزار قباني في العتاب:
أعاتب من أهوى على قدر ودّه// ولا وِدّ عندي للذي لا أعاتبه
ويقول الشاعر العباسي علي بن الجهم:
اذا ذهب العتابُ فليس ودّ// ويبقى الودّ ما بقي العتابُ
وتواصل الحبيبة عتابها بنفس الأسلوب الإنزياحي التركيبي القائم على الاستفهام
وأكثر من ذلك فهي تجعله يتموقع مكانها في مراودة الهموم لها التي تجعل الحراب ترتع في مآقيها فتقول:
وهل مثلي تراودك الهموم
وترتع في مآقيك الحراب؟
كأني بالحبيبة بطريقة ذكية في جعل خليلها يتموقع مكانها تُحكّمُه في شرعية عتابها له ليلتمس لها عذرا وقد يتصالح معها.
ولعل الحبيبة لا تكتفي بعتابه فحسب بل تبوح بشوقها الكبير والطويل اليه فتقول:
هرمت وليل أشواقي دهور
ذوى من بعد نضرته الشباب.
لقد رسم الشاعر حبيبة جريئة لا تكتفي بالعتاب فحسب بل جريئة في البوح بأشواقها اليه.
و”كلمة “الأشواق” هي جمع “شوق” وتعني الرغبة الشديدة واللهفة الى شيء أو شخص. في الأدب ,غالبا ما تستخدم “الأشواق” للاشارة الى مشاعر الحب والعشق, خاصة في سياق الغزل والشعر.”(ويكيبيديا).
وفي هذا الاطار قد ورد في الموسوعة ويكيبيديا الحديث عن ديوان شعري للشيخ الاكبر محي الدين بن عربي “ترجمان الاشواق”.
كما ورد في مكتبة نور كتاب “حنين الأشواق” لعومار رشدي.
وبالتالي فالأشواق هي موضوع حديث الأدباء و الشاعر قد جعل الحبيبة لا تشذّ عن مجموعة الأدباء في بث مشاعر الشوق والرغبة الشديدة واللهفة الى الحبيب:
– يقول المتنبي في الشوق والاشتياق:
لست وحدي من يشتاقكُمُ فحتى// المكان يشاطرني الاشتياق اليكُمُ
– يقول أحدهم:
نغدو من الشوق والأحزان تسبقنا // فالشوق قيس وبعض الحزن ليلاه
ولعل الحبيبة بتهويل طول أشواقها تستجدي شوق الحبيب هو الآخر اليها.
ولعلّها قد أتتْ سُؤْلهَا حين ردّ على خطابها قائلا:
أنا يا قلبُ تأسرني شجوني
تمادت في متاهاتي الشعاب
ان الحبيب أسير شجونه المتشعبة وهو في ذلك يتناغم مع العنوان ليجد لنفسه عذرا على فراقه لها وهو يعيش غربة نفسية داخل أحزانه وهمومه المتشعبة.
وأكثر من ذلك فهو يعيش صراعا بين ظهور طيفها وابتعاده عنها والشعراء تحدثوا كثيرا عن طيف الحبيبة:
– يقول فيصل العدواني:
أنا لا من لقى طيف الحبيبة يبتدي همّي// وأحس أني على كفه وكل الناس في كفه
– يقول ابن الرومي:
طاف الخيال وعن ذكراك ما طافا// فكان أكرم طيْف طارق ضافا
طيفٌ عراني فحياني وأتحفني// بالنرجس الغض والتفاح إتحافا
– يقول عنترة ابن شداد:
أتاني طيف عبلة في المنام // وقبلني ثلاثا في اللثام
أما شاعرنا رفعت شميس فيرى طيف الحبيبة سرابا بين الظهور والابتعاد فيقول:
ويبدو طيفك الغالي وينأى
كما قد يخدع الركب السرابُ
أتاني حاجبا عني التنائي
وعارك بين غربتنا الحجاب
وكان البيْن أقوانا فرفقا
بذات ليس ينفعها العتابُ
ان الشاعر الحبيب والخليل قد اعتبر البيْن أقوى مما يتصور مستخدما في ذلك اسم التفضيل(أقوانا) وقد يرتقي الى اسم التفضيل المطلق (الأقوى) عندما طلب منها الرفق “بذات ليس ينفعها العتاب”
والبيْن هو الفرقة على حدّ قول ابن فارس في مقاييس اللغة وقد تحدث الشعراء عن البيْن:
– يقول أحدهم:
ما زلت أخشى البيْن قبل وقوعه// حتى غدوت وليس لي أن أفرقا
يوم النوى لله ما أقسى النوى// لولا النوى ما أبغضت نفسي البقا
– يقول أحدهم:
لما دعا في الركب داعي الفراق// لعل فراق الحي للبيْن عامدي
وأجمل ما قيل في أدب الفراق:
اذا كان يرضيك الفراق فإنني// رضيتُ بما يرضيك يا خير هاجر
يقول الشاعر كعب بن زهير في البيْن:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول// متيّم اثرها لم يُجز مكبولُ
في هذا الاطار لئن جعلنا الشاعر رفعت شميس نعيش متعة التناص مع العديد من الشعراء حول معاني الشجون/ الخليل/ العتاب / الشوق / الطيف / البيْن فانه لم يُفقدْنا متعة الابداع :
2 – تجليات الابداع بالقصيدة:
أ – مفهوم الابداع:
يرى النقاد أن” الابداع في سياق التناص هو قدرة النص الجديد على استلهام النصوص القديمة وتطويرها وتقديمها بشكل مبتكر”
ان عدة معاني في الحب بالقصيدة قد تواترت عند العديد من الشعراء.
بيْد أن شاعرنا قد تفرّد بمعان جديدة جعلت قصيدته ترتقي من متعة التناص الى متعة الابداع:
ب_ الابداع في المعاني بالقصيدة:
– معنى الشجن والشجون: لقد أضفى الشاعر رفعت شميس معنى طريفا جعل فيه للشجون متاهات وهو أسيرها.انها شجون لا نهاية لها وتجعله في متاهة لا يخرج منها.
– معنى الخليل :إن شاعرنا رفعت شميس جعل الحبيبة جريئة تطلق على حبيبها صفة الخليل بما في الخُلة من اتحاد لروحي الحبيبين وعادة ما يُسند الحبيب هذه الصفة الى حبيبته بوصفها “الخليلة”.
– معنى العتاب: جعل الشاعر العتاب الذي تواتر لدى الشعراء لا معنى له حين أصبح أسير متاهات شجونه.
– معنى الأشواق: جعل الشاعر الحبيبة بجرأتها تبوح بأشواقها لخليلها بدلا عنه والحبيبة عادة ما تكتم أشواقها.
– الطيف :جعل الشاعر طيف حبيبته سرابا يستحيل معه الأمل وهذا أقصى درجات الأسر في متاهات شجونه.
وهل أكثر من أن الوصال بهذا الطيف مستحيل مما جعل الشاعر يستدعي مثلا شعبيا يُضرب به المثل في استحالة تحقيق أي شيء.
إنه مثل “اذا ما شبت أوشاب الغراب” فيقول:
ألا يا طيف يجمعنا وصال
اذا ما شبتَ أو شاب الغرابُ
لقد استدعى الشاعر مثل “اذا شاب الغراب” وهو مثل يضرب به عند العرب للمستحيل(3).
هذا التعبير كناية عن استحالة حدوث الشيء لأن الغراب لا يشيب أبدا وكذلك الطيف لا يشيب.
يقول النابغة مخاطبا عامربن الطفيل:
ولا تذهب بحلمك طاميات
من الخيلاء ليس لهن باب
فإنك سوف تحلم أوتناهى
اذا ما شبت أو شاب الغراب
ومن طلب العلوّ بغير كدّ
سيدركها اذا شاب الغرا ب.
ان القفلة التي ختم بها شاعرنا تتناغم كليا مع العنوان فأسر الحبيب في متاهات شجونه أمر محسوم لا انفراج فيه اذ دعمه بانتفاء واستحالة اللقاء بينه وبين طيف الحبيبة بمثل الغراب الذي لايشيب .انها حتمية عدم اللقاء بطيف الحبيبة.
وبالتالي فالحبيب في غربة نفسية وجدانية واقعا ومتخيلا فلا الواقع يجود عليه بلقاء الحبيبة ولا الخيال يمنحه اللقاء بطيفها كما بقية الشعراء والأحبة.
ان تقنية ضرب المثل حققت للقارئ بدل المتعة متعتين:
– متعة التناص باستدعاء مثل” اذا شاب الغراب”.
– متعة الإبداع بانتقاء المثل الذي يجسد استحالة اللقاء بطيف الحبيبة.
ولعل هذا المثل يلمّح الى مثل آخر يستحيل معه اللقاء وهو مثل “غراب البين” الذي يجلب الفراق والبعد بين الأحبة.
الخاتمة:
وخلاصة القول فلئن تناص الشاعر رفعت شميس في معاني قصيدته مع معاني تواترت لدى العديد ممّن سبقه من الشعراء فانه قد أبدع في التعبير عن هذه المعاني ليخرجها في ثوب جديد.
وبقدر ما أقرّ الشاعر بالتفاعل مع معاني نصوص سابقة بقدر ما أعْلن ابتكاره لمعاني جديدة ترتقي بقصيدته نحو التجديد.
سلم قلم الشاعر المتحرّر رفعت شميس.
بتاريخ :30/ 05/ 2025
المراجع:
(1) ولاء مأمون جامع حسن – مجلة كلية الآداب جامعة أسوان 2023- التناص بين المفهوم العربي والغربي.
(2) عنان أبو دولة. درجات الحب, آخر تحديث 1/ ماي/2022 .موقع موضوع
(3) عبد الرحمان الناصر الغامدي..من امثال العرب “اذا شاب الغراب” X.albassl 2001
أسيرٌ في متاهات شجوني.
———————-بقلمي :
خليلي – هل توسدك العذاب
وأرهبك الفراق بما يهاب ؟
وهل مثلي تراودك الهموم
وترتع في مآقيك الحراب ؟
هرمت وليل أشواقي دهور
ذوى من بعد نضرته الشباب
أنا يا قلب تأسرني شجوني
تمادت في متاهاتي الشعاب
ويبدو طيفك الغالي وينأى
كما قد يخدع الركبَ السرابُ
أتاني حاجبا عني التنائي
وعارك بين غربتنا الحجاب
وكان البين أقوانا فرفقا
بذات ليس ينفعها العتاب
ألا ياطيف يجمعنا وصال
“إذا ما شبتَ أو شاب الغراب”
Discussion about this post