شهد الخامس من حزيران عام 1967 هجوما “إسرائيليا” على عدة بلدان عربية كان من بين نتائجه احتلال هضبة الجولان على الجبهة السورية نتيجة جملة من الأسباب من أبرزها الأوضاع السياسية في البلاد في فترة الستينيات وما تخللها من صراع على الحكم كان الجيش في قلبه متصدرا للمشهد ، حيث كان حلم السلطة الشغل الشاغل لكبار ضباط الجيش في تحول واضح عن مهمتهم الرئيسية في حماية حدود البلاد، إضافة إلى أسباب أخرى من ضمنها التفوق النوعي للسلاح “الإسرائيلي” ،و الدعم الغربي وفي مقدمته الأمريكي الواضح “لإسرائيل”.
واقع جديد فرضته “إسرائيل” بقوة السلاح في مخالفة واضحة للقانون الدولي ، وانتهاك صارخ لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة ، إضافة إلى مشكلة إنسانية أحدثتها “إسرائيل” لما لا يقل عن 100 ألف من أهالي الجولان الذين وجدوا أنفسهم بلا مأوى ، ومضطرين لمغادرة بيوتهم، وترك أرزاقهم بقوة السلاح في عملية تهجير واضحة، وعلى العلن.
100 ألف أصبحوا اليوم أضعاف ذلك الرقم من أبنائهم وأحفادهم الذين يعيشون في مختلف أرجاء سوريا وبالأخص في ريف دمشق في صورة واضحة عن جرح نازف بلغ عمره اكثر من نصف قرن لا يكاد يسمع أنين ألمه أحد.
حاولت سوريا استرجاع الجولان في حرب تشرين عام 1973 التي خاضتها بالتنسيق مع مصر ، وبدت الحرب ناجحة في البداية لكن سرعان ما بدأت القوات السورية بالتراجع تحت وطأة الهجوم “الإسرائيلي” المضاد الذي أدى لاسترجاع ما خسره في الأيام الأولى، بل أكثر من ذلك بقضم أراض جديدة فيما بات يعرف ب جيب سعسع ، إلى أن توقفت الحرب بقرار مجلس الأمن رقم “338” الذي يقضي بوقف جميع الأعمال العسكرية.
تلا ذلك حرب الاستنزاف التي استمرت 82 يوم وانتهت باتفاقية فض الاشتباك والتي نصت على انسحاب “إسرائيل” من المناطق التي سيطرت عليها في حرب تشرين، ومن مدينة القنيطرة ، إضافة إلى إقامة حزام أمني منزوع السلاح على طول خط الحدود الفاصل بين الجانب السوري ، والأراضي التي تحتلها “إسرائيل”.
استقرت الجبهة على هذا النحو ، ثم بدأ العمل على المسار الدبلوماسي الذي تجلت أبرز معالمه من خلال مشاركة سوريا في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 ، وما تلاه من عقد مفاوضات بين الجانبين برعاية الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس بيل كلينتون لم تثمر عن شيء ، وما تبعها من مفاوضات برعاية تركية في عام 2008 لم تكن نتائجها بأفضل من سابقتها.
تحركات دبلوماسية لم تغير شيء من الواقع حيث بقيت الجولان تحت السيطرة “الإسرائيلية” إلى حين سقوط نظام الأسد، حيث قامت “إسرائيل” بالتوغل في مختلف مناطق القنيطرة, وأقامت نقاط تمركز عسكري لها هناك، بالتزامن مع تدمير المقدرات العسكرية السورية في محاولة واضحة لفرض واقع جديد ، والضغط على الحكومة السورية في بلد يعيش مرحلة انتقالية بعد حرب استمرت أربعة عشر عاما دفع فيها السوريون الكثير على مستوى الأرواح والممتلكات.
عادت قضية الجولان لتطفو على السطح في الفترة الأخيرة ، حيث صرح عدد من المسؤولين السوريين بوجود مفاوضات غير مباشرة عبر وسطاء مع الجانب “الإسرائيلي” لتهدئة الأجواء والعودة إلى اتفاق فض الاشتباك عام 1974.
على الجانب الآخر جاءت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين باستعدادهم لإقامة علاقات دبلوماسية مع سوريا دون التخلي عن مرتفعات الجولان،وفي سياق متصل تخرج أخبار عبر وسائل الإعلام حول تصريحات بعض المسؤولين مجهولي الهوية من هذا الطرف أو ذاك تطرح بعض السيناريوهات التي يتم مناقشتها لإبرام اتفاق مستقبلا ، لا يمكننا الخوض فيها حتى خروجها للعلن من مصدر رسمي.
كما حاولت “إسرائيل” أن تسوق بأنها من أسقطت نظام الأسد، ستحاول بلا شك الادعاء بأن التقارب الدبلوماسي الغربي السوري ، وإزالة العقوبات عن سوريا لم يكن ليحدث لولا موافقتها ، ادعاءات “إسرائيلية” بعيدة تماما عن المنطق، وتتعارض مع تصرفاتها على أرض الواقع، فإذا كانت إسرائيل هي من أسقطت نظام الأسد، فلماذا قامت بالتوغل بالأراضي السورية ، وتدمير المقدرات العسكرية في البلاد، تبدو “إسرائيل” أمام معضلة التوفيق بين التصريحات والأفعال ، فكل منهما يبدو في طريق معاكس للآخر تماما.
إن التقارب الدبلوماسي السوري الغربي قبيل أي اتفاق سوري إسرائيلي قد يكون مطروحا في المستقبل يبدو وكأنه سحب ورقة ضغط كبيرة كانت ستسخدمها “إسرائيل” في أي مفاوضات مستقبلية، في خطوة تحمل نجاحا كبيرا للحكومة السورية بمساعدة بعض الحكومات في الإقليم، لكن الوضع الذي فرضته “إسرائيل” في القنيطرة يتطلب تحركا من الحكومة السورية بكل الوسائل الدبلوماسية لإجبار “إسرائيل” على الانسحاب من كافة المناطق التي توغلت فيها في الفترة الماضية، فالحكومة السورية صرحت مرارا بأنها لا تنوي محاربة أحد ، حيث تصب جل اهتمامها على تحسين الوضع المعيشي والخدمي في البلاد، وفي ذلك سحب لورقة التهديد الأمني الذي تدعيه “إسرائيل” من الأراضي السورية.
وسط كل الظروف الراهنة يبدو الخيار الأبرز ، والأكثر واقعية هو العودة إلى اتفاق فك الاشتباك الموقع بين الجانبين عام ١٩٧٤م ، أو أي اتفاق جديد يحمل بنودا مشابهة، والأيام القادمة كفيلة بكشف المستور.
Discussion about this post