كتب رياض الفرطوسي
ليس المثقف من يعتلي خشبة العالم لينافس الممثلين، ولا ذاك الذي يقتات على التصفيق ليملأ جوعه المعرفي بالضجيج. المثقف، حين يكون حقاً، لا يشبه الجمهور، ولا يحرص أن يعجبه الجمهور. إنه لا يطلب الدور، بل يشكّ في المسرح كله.
في هذا الزمن الذي استبدل فيه العقل قبعته بخوذة، والموقف بصوت مرتفع، أصبح من الصعب أن تميّز بين من يعرف، ومن يتقن تقليد العارفين. في الواجهة، وجوه تلمع أكثر مما تفكر، تكتب أكثر مما تقرأ، وتُحاضر كأنها تحمل النبوءة، بينما هي لا تحتمل سؤالًا بسيطاً بلا إجابة جاهزة.
المثقف الحقيقي لا يحتمي بكلمات الآخرين، بل يُعرّي لغته كلّ يوم ليختبر صدقها. لا يكتب لينجو، بل يكتب لأنه لا يحتمل النجاة الزائفة. لا يؤمن بالمطلق، ولا يثق في المسلمات، ولا يُراهن على الجماهير، بل يسير عكس اندفاعهم ليقول لهم: “قفوا، قبل أن تنزلقوا في الحفرة الأخيرة”.
هو وجه لا يلبس. لا يعرف المساومة، ولا يُجيد حيلة الاختباء خلف مصطلحات معقدة أو بلاغة رخوة. صوته هادئ لأنّ صراخه داخلي، وموقفه مشتبكٌ دائماً مع الزمن لا مع “اللحظة” الفيسبوكية. هو ضد أن يتحول الوعي إلى ديكور في مقابلة تلفزيونية، أو أن تصير الثقافة مشهداً استعراضياً لمزاج الممول.
المثقف الحقيقي لا يُنقّي فكره على مرآة السائد، ولا يلمّع روحه في صالونات النقد الناعم. إنه يشبه جمرة تمشي على قدمين، يُقلقه ما لا يراه الآخرون، ويُؤلمه ما تعوّدنا أن نسميه “عادياً”. يتأمل الجرح أكثر مما يتغنّى به، ويحمل الحقيقة كما يحمل السائر على درب الألغام قلبه المرتجف.
لا يكتب شعارات، ولا يركض خلف “قضايا الموسم”، ولا يصطفّ في طوابير النُخب الجاهزة للعرض. إنه يعرف أن الأهم من أن “يبدو مثقفاً”، هو أن يكون حرّاً. والحرية هنا ليست رأياً جامحاً أو صورة متمردة، بل قدرة نادرة على رفض التواطؤ، حتى حين يُلبسوه ثوب الحكمة.
هذا النوع من المثقفين لا يجد له مكاناً في الاحتفالات، ولا يُدعَى إلى منصات التصفيق، ولا يحصد الجوائز، ولا تُقتبس كلماته في خطب الزعماء. إنه يعيش في الظل، لكنه ينير ما لا تُضيئه الأنوار الزائفة. يُشبه شمعة في غابة لا تهتم للضوء، لكنه يشعلها رغم الريح.
في العراق، كما في أممٍ أخرى، يتكاثر الحبر الرخيص، وتتكاثر معه الأقنعة. يلبس البعض قبعة التمرد وهو منتفع، ويتقمّص آخرون دور المُصلح وهم أوصياء على الخراب. أما المثقف الحقيقي، فغالباً ما يُساء فهمه، ويُتهم بالتشاؤم أو باللاواقعية، لأنه لا يساير، ولا يهادن، ولا يُطيّب الجراح بالكلمات.
هو كائن يَقلق من اليقين، ويأنف التكرار، ويحترق كلما وجد نفسه محاطاً بالمدّاحين. لا يُحبّ أن يكون نجماً، بل يفضل أن يبقى سؤالًا. لا يسكن في الكتب، بل يمشي بها. ولا يُسهب في مديح الماضي، بل ينقّب في ركامه عمّا لم يُقل.
هو الضمير حين يخرس الجميع، والصوت حين يعلو الضجيج. لا يُبشّر بثورة، بل يُمارسها على ذاته أولًا. لا يصافح من لوّث الحقيقة وهو يبرر، ولا يُربّت على كتف الضحية ليُهدئها، بل يقول لها: “لا تكفي دموعك لتغير العالم، ولا يكفي غضبك أيضاً، بل الوعي”.
المثقف الحقيقي لا يُقاس بعدد متابعيه، ولا بعدد كتبه، بل بقدرته على أن يقول “لا” حين يصبح “القول نعم” هو الأسهل.
في حضرة المثقف الحقيقي، لا أقنعة ولا ادعاء… فقط فكرٌ يضيء وموقفٌ لا يساوم.
Discussion about this post