لم يكن يعرف الكاتب حين استيقظ في ذلك الصباح أن الحياة ستميل مرة أخرى إلى الهلاك في لحظة مفاجئة. كان يومًا عاديًا، متسارعًا كما هو الحال دائمًا، مليئًا بأفكار اليوم والغد، إلا أن الجرس الذي رن في هاتفه غير كل شيء. كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحًا، عندما رن الهاتف فجأة، قطع حديثه مع نفسه. نظر إلى الشاشة فكان الرقم من أحد أقربائه الذين يعيشون في الخارج، ابن خالته امين البكاء الذي لم يتصل به منذ فترة طويلة.
أخي جليل، الحمد لله على كل حال. تعازينا الحارة بوفاة أختك.
كلمات صادمة لم يكن مستعدًا لسماعها. وقف في مكانه، كأن الزمان توقف عند تلك اللحظة. كيف؟ لم يكن هناك أي تحذير، لم يكن هناك أي شيء يشير إلى هذا الخبر. قبل ساعة فقط، كانت ابنته تتصل به وتؤكد له أن حالتها الصحية في تحسن، وأنها بدأت تستعيد عافيتها بعد أيام من المعاناة. كيف لهذا أن يحدث فجأة؟
نزلت الكلمة كالصاعقة على رأسه، وكأن دفقًا من الأسى اخترق قلبه، جعله في حالة من الصمت المطبق. فكر للحظات أنه ربما كان هناك خطأ ما، شيء غير صحيح، فقرر أن يعيد الاتصال بابنة أخته للتأكد. لم تكن الإجابة التي تلقاها أرحم من سابقتها.
وهي تجهش بالبكاء، نعم، خالو … لقد توفيت امي قبل ساعة …
كان كل شيء في حياته يتساقط من حوله. لم يعد يحتمل أن يصدق. كيف، وهو الذي ظل طوال الفترة الماضية يتابع أخبارها، يطمئن عليها، يرسل لها رسائل مشجعة، يفكر في أن كل شيء سيتحسن؟ كيف له أن يستوعب أن الأمل الذي كان يتشبث به قد تحطم بين يديه؟
في تلك اللحظة، بدا أن العالم قد صمت تمامًا، وكأن القلوب التي كانت تنبض بأمل الشفاء قد تجمدت في نفس اللحظة التي نزل فيها الخبر. كانت الحقيقة أقسى من أي خيال، أشد من أي ألم يمكن أن يتصوره المرء. فكيف لهذا أن يحدث لأخته، لتلك المرأة التي كانت دائمًا سندًا لأهلها، قد خذلتها الحياة بهذا الشكل؟
حكاية مأساة في وسط مأساة،
فكلما كانت الأخبار تتواتر حول حالتها الصحية، كان الكاتب يشعر بأن الحياة لا تترك له مجالًا للتنفس. ووسط هذه الهمسات والتوقعات، أصبح الواقع أكثر قسوة. كيف يمكن للإنسان أن يستوعب أن الأحباء، الذين كانوا جزءًا من حياته اليومية، أصبحوا جزءًا من الماضي؟ أن تختفي ضحكاتهم، وذكرياتهم، وتصبح الأماكن التي كانوا يشغلونها في البيت فارغة.
فقد كانت أخته، هي الأخرى، قد توفيت قبل أسابيع. كانت الحياة التي تسير في اتجاه ما قد انقلبت تمامًا في لحظة واحدة، مثلما يتقلب الرياح فجأة. بين الألم والحزن، كان الكاتب يراقب عن كثب تلك اللحظات التي غابت فيها أمه وأخته. ومع غيابها، كان الألم يتراكم في قلبه بشكل لا يحتمل، فها هو الآن فقد أختًا أخرى، وكلما نظرت إليه الحياة، كان يراها تختفي أكثر وأكثر.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، بدأ الكاتب يواجه شعورًا معقدًا. إنه لا يشعر فقط بمأساة موت أحبائه، بل يشعر بما مر به الآخرون في مثل هذه اللحظات. كلما بدأ في التفكير في ما مر به من وجع، كان في ذهنه أولئك الذين عاشوا لحظات مماثلة، العائلات التي لم تُسمع أصواتها، الأمهات اللاتي فقدن أطفالهن، الآباء الذين سقطوا تحت وطأة المرض. كان يشعر بأن هذه الأزمة لم تكن مجرد سلسلة من الأوجاع الشخصية، بل كانت اختبارًا للإنسانية نفسها.
كان عقله في سباق مع الزمن، يحاول أن يستوعب ما حدث، ما يمر به، وما سيأتي. والأكثر إيلامًا له كان الشعور بالعجز أمام شيء غير مرئي يفتك بالناس، ولا يمكن السيطرة عليه. لكنه في نفس الوقت، كان يحاول أن يجد مساحةً للتعاطف مع الآخرين، أن يرى فيهم ما شعر به، بل وأكثر. إذ كان يدرك أن هذه المعركة كانت معركة جماعية، وأن شعور الألم هو جزء من كائن واحد يشترك فيه الجميع.
مرت الأيام، وحين عادت الذكريات، شعر أن كل ما مر به من معاناة ليس سوى انعكاس للمأساة التي يعانيها الملايين من حوله. فقدان الأحباء أصبح ألمًا جماعيًا. وبألم أكبر، كانت تراوده أفكار جديدة: هل نحتاج إلى أن نخسر الجميع حولنا كي ندرك أن الحياة لا تتوقف؟ هل نحن بحاجة إلى أن نشعر بهذا الفراغ لنعرف أننا لا نعيش وحدنا في هذا العالم؟
ولكن وسط ذلك الظلام، كان هناك شيءٌ ما بدأ يشتعل. شعورٌ بأن هذا الألم لا يجب أن يمر بدون أن نكون معًا في هذه اللحظة.
جليل هاشم البكاء
Discussion about this post