د. مريم محمود العلي
بين الحلم والواقعِ
تمتدّ هوةٌ سحيقة، فأنا أحلمُ بالعيش في أحضان الطبيعة، حيثُ تتنفسُ الروحُ حريةً مطلقةً، لا تكبلُها قيود، ولا تلوثُ نقاءها ضوضاءُ المدنية. هناك، حيثُ أغمضُ عينيّ فلا أرَى إلا جمالَ الخالقِ المتجلّي في كلّ ذرّةٍ من ذراتِ هذا الكون، وأصمّ أذنيّ فلا أسمعُ إلا همسَ الريحِ وتغريدَ الطيورِ وخريرَ المياه. إنّه الجمال الأصيل الذي نَسَجَتْه أنامل الإله، لكنّ اليد الآثمة تمتد فتشوّهه بلا رحمة، وكأنّها لا تدرك أنها تمزّقُ ثوب جمالٍ أبدعِهِ سيّدُها.
لقد اكتشفت ، وبمرارة، أنّ ما ندعوه تقدّماً وعلمًا وتكنولوجيا، وما نراه من هيمنة القوى العظمى، لم يكنْ سوى قيود جديدة تُضاف إلى أغلالنا. لقد شاركتْ هذه القوى، بوعيٍ أو بغير وعي، في قتلِ حريتنا البسيطة، حرية الروح والجسد. لقد كان بمقدورِ الإنسانِ، حتى القرن التاسع عشر، حينَ تضيقُ به الدنيا وتقهرُه الظروف، أن يحملَ قليل متاعهِ ويمضي إلى أيّ ركنٍ ناءٍ في أرضِ الله الواسعة. كان يَسعى حيثُ لا وجهةَ محددة، يعيشُ في هدوءٍ كما يشاء، لا يهمّه إن باتَ في كوخٍ متواضع، أو اطمأنّ في مغارةٍ بين الجبال، أو شادَ له بيتاً بسيطاً بين أحضانِ الغابة. كان المهمُّ أنه قادرٌ على الفعل، قادرٌ على أن يختارَ العزلةَ طلباً لذاتهِ ولسلامهِ الداخلي. لا أحد يمنعه من عبور الحدود لأنها لم تكن موجودة
أمّا اليوم، فأينما وليتُ وجهي، أجدُني محاصرة، لقد باتَ العالمُ كلّه سجناً كبيراً، تغلفُه شاشاتٌ لا تفترق، وقوانينُ لا تُعد، وحدودٌ مصطنعة. لقد ضاقَتِ الأرضُ بما رحبت، وأصبحنا نعيشُ في قهرٍ متجدّدٍ وإحباطٍ لا ينتهي. لم نعدْ نملكُ حتى حُلمَ الهربِ إلى مكانٍ لا يصلُ إليه ظلُّ الحضارةِ المادية. لقد سُلبنا آخرَ ملاذاتنا، وسُجنتْ أرواحُنا في متاهةِ الحجرِ والإسمنت، تائقةً إلى حريةٍ كانت بالأمسِ القريبِ حقاً مُكتسباً، فأصبحتْ اليومَ مجرّدَ ذكرى في كتبِ التاريخ والفلسفة وأحلامِ الشعراء.
Discussion about this post