كتب رياض الفرطوسي
ليست القوة اليوم في فوهة البندقية، بل في كودٍ يُكتب على شاشة.
ذلك الكود قد يُسكت صوتاً، أو يُبرز آخر، وقد يرفع اقتصاداً أو يُسقط دولة.
هذه هي معادلة العالم الجديد؛ لم تعد السيطرة تحتاج إلى أسطولٍ ولا جيوشٍ، بل إلى خوارزميةٍ ومصرفٍ ومنصّة.
اللوبي الصهيوني في الغرب ليس مجرد نفوذ سياسي، بل شبكة مصالح محكمة، متداخلة في الإعلام والمال والتقنية. من يخرج عن نغمتهم يُقصى فوراً: تُسحب إعلاناته، تُقاطع شركاته، وتُفتح له أبواب الاعتذار الإجباري. حتى أثرياء التقنية، أولئك الذين ظنوا أنفسهم أحراراً، يجدون أنفسهم فجأة أمام اختبار الطاعة، فينحنون.
القوة هنا ليست في الصراخ، بل في من يملك “المفتاح”.
مفتاح المال، مفتاح السوق، مفتاح المعلومة.
حين تملك هذه المفاتيح، فإنك لا تحتاج أن تهدد أحدًا؛ العالم يخاف أن يُغلق الباب دونه.
منظومات مثل البنك الدولي وصندوق النقد ليست بعيدة عن هذا المنطق.
هي أدوات ضغط ناعمة، ترتدي لغة الإصلاح، لكنها تُنتج التبعية. من يقبل بشروطها يفقد سيادته، لأن السيادة لا تُقاس بعدد الجنود، بل بالقدرة على قول “لا”.
وهذه الكلمة، في عالم اليوم، مكلفة جداً.
ومثلما تُخضع المؤسسات المالية الدول، تُخضع الشركات التقنية العقول.
الاستعمار الحديث لا يزرع علمه على الأرض، بل في الأجهزة.
يمنحك وسيلة الاتصال، لكنه يراقبك من خلالها.
يتيح لك المنصة، لكنه يقرر من يظهر عليها ومن يُمحى.
وهكذا يصبح الإنسان جزءاً من شبكةٍ تُدار من بعيد، يظن نفسه متصلًا، بينما هو مُتحكم به.
حين نتحدث عن الاستقلال، لا نعني فقط الجغرافيا، بل الفضاء الرقمي أيضاً.
أن نملك أدوات بحثنا، خوادمنا، لغات برمجتنا. أن يكون “صوتنا” محلياً لا مرتهنًا لخوارزمية غريبة تقرر إن كانت كلمتنا تستحق الظهور أم لا.
إنها ليست رفاهية فكرية، بل شرطٌ للبقاء في زمنٍ تُخاض فيه الحروب على مستوى المعلومة قبل أن تُخاض على مستوى الأرض.
ما حدث في “طوفان الأقصى” لم يكن صراعاً عسكرياً فقط، بل اختباراً للعالم الرقمي ذاته.
الرقابة، الحجب، تصفية الحسابات الرقمية، كلها كشفت هشاشة اعتمادنا الكامل على أدوات لا نملكها.
وهي دعوة صريحة إلى أن نُعيد بناء منظومتنا التقنية من الجذور، لا بردّات الفعل، بل برؤية واضحة: أن تكون لنا أدواتنا كما كانت لنا لغتنا وتاريخنا.
قد لا نملك بعدُ جيوش التكنولوجيا، لكنّنا نملك العقول التي يمكن أن تبنيها.
فكما قيل قديماً: من لا يصنع سلاحه، يُقتل بسلاح غيره.
واليوم، السلاح هو “المعلومة”.
Discussion about this post