الكاتب الفرنسي ( أنـدريـه جـيـد )
و”المِـثـليـة” بيـن الأدب والفلسفة ..
د.عـلـي أحـمـد جـديـد
الكاتب (أندريه جيد 1869 – 1951) من كبار الكتّاب الفرنسيين خلال النصف الأول من القرن العشرين . عرفه القراء العرب في زمنه برواياته التي تُرجِم العديد منها إلىٰ العربية ، ومن بينها “أقبية الفاتيكان و المزيفون والباب الضيّق” وكذلك بكتب عديدة أصدرها في أدب الرحلات ، يصف بعضها رحلاته إلىٰ شمال أفريقيا وبعضها رحلاته إلىٰ الكونغو ومصر والجزائر ، وكان كتابه الأشهر “الأغذية الأرضية” الذي كشف فيه عن إعجابه المبكر بأفكار الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) وبصورة خاصة كتابه “هكذا تكلَّم زارادشت” الذي يقول عنه بأنه “من خصائص (دويستويفسكي)” .
وكان كتابه الأخطر يتمثّل في روايته “كوريدون” التي كتبها كسيرةٍ ذاتية صوّر فيها نفسه البطل “كوريدون” ، ذلك الشاب المدافع عن “المثلية الجنسية” عملاً بالبند السابع عشر من الكتاب الشهير “بروتوكولات حكماء صهيون” التي تدعو إلىٰ تفكيك المجتمعات للقضاء علىٰ الرسالات السماوية للديانات التوحيدية حسب وصايا (التلمود) اليهودي ، وهو ماحدَّ من الحماسة علىٰ ترجمة روايته إلىٰ العربية ، إلا أن تلك الرواية”المثلية” هي التي أوصلته إلىٰ جائزة (نوبل) للآداب .
حين بلغ السادسة عشرة من عمره قرأ (أنـدريـه جـيـد) في مكتبة والده كتاب “اعترافات جان جاك روسو” ، التي كتبها الفيلسوف الفرنسي ، وأراد أن يخبر القراء من خلالها بأن ولادته كانت فاتحة مصائبه وشقائه ، حيث كان التَشرّد والحرمان واليُتم يرسمون ملامح حياته البائسة ، وذلك ما عمّق إحساسه في الشعور بالظلم :
“لقد علمتني ذكرىٰ التبدل الذي أصابني في حياتي ، الفرق بين تبعية الابن للأسرة وبين الخضوع الذليل للآخرين” .
وقد أراد الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) لكتاب اعترافاته أن يكون سيرةً ذاتيةً مُتحرِّرةً تصيب القراء بصدمةٍ تهزّهم :
“على الرغم من أنني خجول بطبيعتي ، إلا أنني كنت جسوراً بعض الأحيان – في شبابي – ولكني لم أكن كذلك قط في شيخوختي ، لأنني كلما كنت أزداد تعرّفاً علىٰ المجتمع ، تقَلُّ قدرتي علىٰ أن أكيف نفسي وفقاً لأساليبه في الحديث ، وإذا كان قد قُدِّرَ لي ألّا أُحِبَّ العيش وسط الناس ، فقد كان هذا ذنبهم أكثـر مما كان ذنبي” .
وكان (روسو) قد تَعرَّض لكثير من الملاحقات والتقييد والحصار من الكنيسة التي قررت أن تُحرِقَ كتبه علناً عام 1762م ، ولهذا اتُخِذَ القرار الكَنسي بتأجيل نشر الاعترافات التي صوّر فيها أدَقَّ تفاصيل حياته التي صوّر فيها موقفه من السلطة ، وصراعه مع التقاليد البالية ، وكتب بكل صدق وصراحة رأيه في الجنس ، ونظريته في التربية ، والأهم أنه كشف موقفه من الحقيقة التي كان يتخذها شِعاراً طوال حياته . وخوفاً من مطاردة السلطات والكنيسة لم ينشر الاعترافات أثناء حياته ولم تَرَ النور إلا بعد انقضاء ثلاث سنوات علىٰ رحيله ، إذ توفي (روسو) في الثاني من تموز/يوليه عام 1778م ، وتم نشر الجزء الأول من الاعترافات بعد أن حَرَّمَت الكنيسة نشر الكتاب قبل صدوره ، ونشرت بياناً تحذِّر فيه أصحاب المطابع من نشر كتب “المارق” (جان جاك روسو) . وبسبب الإجراءات الصارمة التي كانت تتخذها السلطات الكنسية ضد الكتب ، ازدهرت وقتها السوق السوداء للكتب ، إذ كان (فولتير) أيضاً يكتب عام 1773م مشجعاً هذه الظاهرة :
“مللنا من الكتب السيئة المطبوعة تحت الموافقة والامتياز الملكي ، إنها مواد خاملة ومرتكبة ونحتاج إلىٰ ما يوقظ أذهان الناس” .
وكان الأثر الكبير في المجتمع الفرنسي لوصول أفكار (آدم وايسهاوبت Adam Weishaupt) الفيلسوف الألماني ، وأستاذ القانون الكنسي في جامعة “إنغولشتات Universität Ingolstadt”
مؤسس حركة “المستنيرين” في01 أيار/مايو 1770م ، رائد أول تنظيم للمستنيرين ، وكذلك الأثر البارز لتأسيس محفل الشرق العظيم The Great Orient Lodge الذي ينشر أفكار المساواة والعدل وفصل الدين عن الدولة والتي كانت الفكر الرئيس في اندلاع “الثورة الفرنسية” . وبذلك استطاعت حركة “المستنيرين” أن تستقطب وجهاء المجتمع ونبلاءه وأصحاب المال والمفكرين والعلماء والأدباء والمشاهير ، وتَبَنّي دعوتها إلىٰ تحرير الفكر وتنمية العلوم وتحييد الكنيسة من خلال تقليص تأثيرها الاجتماعي .
وقد أدّىٰ توطيد أركان رقابة الكنيسة والدولة إلىٰ إنعاش سوقٍ غيرِ شرعية تمتلئ بكتب تحمل أفكاراً مثيرة ، حتىٰ صار الكتاب الممنوع يشكِّل رهاناً علىٰ ازدهار المطابع الصغيرة المخبَّـأة في المدن القديمة لتُصدِرَ الكتب التي تحظرها الكنيسة ، أو الكتب التي صدرت من الرقابة الملكية أوامر منعها ، ومنها كتب (جان جاك روسو ، و ديدرو) وكتب الفيلسوف الانكليزي (هيوم) التي ترجمت إلىٰ الفرنسية ، وبعض من مؤلفات (فولتير) ، وبذلك جذبت تجارة كتب “السوق السوداء” الممنوعة أصحاب المطابع المغامرين وبائعي الكتب الذين دفعهم اجتماع الحاجة والطموح إلىٰ ترويج الكتب التي تثير غضب الكنيسة ، وكان هؤلاء الباعة ناشطين في الترويج لكتب الفكر التنويري ، وللعديد من المؤلفات السياسية والفلسفية والروايات والقصص الإباحية .
وبعد ما يقارب المائة والخمسين عاماً عاد (أندريه جيد) يكرر التجربة ، حيث مزج سيرته الذاتية والواقع بالفكر والأدب وبالحياة السرية التي كان يحاول أن يخفيها عن الناس .
ففي مقدمة كتابه “الاعترافات” يكتب جان جاك روسو :
“إنني مُقدِمٌ على مشروع لاسابق له وتنفيذه لن يجد له نظيراً . إنني أعتزم أن أُري رفاقي من البشر إنساناً وسط صدق الطبيعة ، ولو حتى وراء القبر إن جاز لنا مثل هذا القول” .
وفي عام 1926 نشر أندريه جيد سيرته الذاتية أو اعترافاته ، وهو يمضي علىٰ نفس منهج معلِّمه ومَثله الأعلىٰ (جان جاك روسو) ويكشف الحقيقة فيما كتب :
“إن مذكراتي هذه ليس لها الحق إلا أن تكون صادقة” .
حيث بدأت اعترافات (أندريه جيد) بعبارةٍ قريبة الشَبَه بعبارة مُعلّمه الروحي (جان جاك روسو) في كتابه الاعترافات ، فكتب يقول :
“إن الاهتمام بأن أبدو بدقة علىٰ الصورة التي كنت أشعر إنني أحياها ، أو كنت أوَدُّ أن أكونها ، كل ذلك يجعلني أرىٰ نفسي بوضوح وكأنني أتأمل تقاطيع وجهي في مرآة ورثتها عن أمي” .
حيث تتصارع في داخله التعاليم المسيحية التي كانت أمّه تدعوه كل صباح لترديدها طمعاً بمغفرة الربّ لذنوبه في ظلّ شخصية أبيه الصارمة التي كانت تسخر من الضعف الإنساني بكل صوره . وقد حاول (أندريه جيد) أن يتخذ لنفسه طريقاً خاصاً وسلوكاً متميزاً فكان وبدلاً من أن تكون اعترافاته في الكنيسة ، قدَّم اعترافاته في هيكل القراء دون تزييف وهو يطرح سؤالاً مهماً عنْ ماهية نفسه :
“من تُراني أُقنع بأن كتاب “الباب الضيّق” هو التوأم الشقيق لكتابي “اللا أخلاقي” وأن موضوعيهما كانا يكبران ويطَّرِدان في ذهني يواكب كل منهما الآخر ، وإن الغلوّ في أحدهما كان يجد استجابةً خفيةً في غلوّ الآخر ، وبهذا فقد اتسق التوازن في كليهما” .
وفي العام 1902 نشر (أندريه جيد) كتابه “اللا أخلاقي” ، وفيه يستعرض شخصية “ميشيل” الذي يعمل استاذاً للتاريخ ، والذي تربىٰ منذ الصغر في جو دراسي صارم ، لأن أباه كان يطمح أن يصبح ابنه مؤرِّخاً كبيراً ، فقرر أن يسجنه في بيئةٍ دراسيةٍ منعزلةٍ وبعيدةٍ عن ضوضاء الحياة . ويبدأ أحداث روايته في اللحظة التي يقرر فيها “ميشيل” الذهاب برحلة إلىٰ شمالي أفريقيا مع زوجته الشابة “مارسلين” . وفي تلك الرحلة يصاب “ميشيل” بمرض خطير وينتابه شعور غامر بأنه سيغادر هذا العالم دون أن يتمتع بالحياة :
“لقد فكرت من قبل إنني أفهم بأنني أحيا ويجب أن أعمل من أجل الحياة الممتلئة”
ليُظهِرَ (أندريه جيد) بأنه يخفي شخصيته الحقيقية وراء شخصية بطل روايته “ميشيل” الذي عاش صرامة أبيه في حياةٍ ماضية حرمته من كل متع الحياة ، ولم يجد وسيلة للخلاص سوى التحرر من كل تبعات الماضي وبكل قيمه وتقاليده ، ليلتفت إلىٰ استغلال كل لحظة من العمر للتمتع باللذة التي يكتشفها متأخراً :
“إنني لا أجد مذاقاً فيما مضىٰ ، ومذاق اللحظة الحاضرة لايزيد عن يوم ، غير أن المستقبل ينجح بأن يطيح بسحر الحاضر ولكنه يعجز أن يطيح بسحر الماضي ، إن حياتي إنما تنقذف نحو المستقبل” .
وحين يكتشف بطل الرواية “ميشيل” أن كل العناصر التي تتركب منها الأخلاقيات الاجتماعية هي تقليدية ومعادية للحياة ، ولا يمكن لنمو الإنسان الحقيقي أن يتمَّ إلا في مواجهة هذه القوىٰ ، كما أن الحقيقة الصادقة لا يمكن اكتشافها إلا بعد تنحية هذه القوىٰ (الوهم) جانباً . وبذلك نجح (أندريه جيد) بتصوير تَمَرّد بطل روايته “ميشيل” علىٰ الواقع ليجعل منه رسالة موجهة للإنسانية :
“ماذا يمكن أن يكون عليه الإنسان ثانية ؟!.. إن هذا ما حمل إليّ المعرفة” .
ومن خلاله استطاع (أندريه جيد) أن يتهم المجتمع بأنه يحجب الحقيقة وراء ستارة “آداب السلوك ” التي هي وحدها تهم الإنسان في ظاهره ، وإن تمزيق هذه الستارة كان النتيجة المجدية والصادقة التي يتوصل إليها “ميشيل” في ختام الرواية :
“لقد بدا لي حينئذ إنني أولد من أجل نوع مجهول من الاستكشاف ، ولقد انفعلت انفعالاً غريباً في بحثي الذي أجد فيه نفسي وكأنني أجحد فيه الحضارة و اللياقة والأخلاقيات” . فيوجز (أندريه جيد) بأن القضية الأساسية التي أراد أن يطرحها في روايته “اللا أخلاقي” هي التجارب المرتبطة بالفساد الأخلاقي والتمتع بكل لذة مستطاعة حين يقول البطل في روايته :
“إنك لا تستطيع أن تقدّر المجهود الذي كان لزاماً علينا بذله لكي نحس إحساساً صادقاً بالحياة ، والآن وقد تحقق ذلك فهو كالحال مع كل شيء آخر عن طريق الحِسّ وعن طريق الشهوة” .
وفي عام 1911م كتب (أندريه جيد) مقالته الشهيرة عن رائعة ” المائدة ” لأفلاطون ، والتي وصفها بأنها البحث الأقدم عن الحب في الحضارة الغربية :
“إنه نَصٌّ ذو أثر كبير علىٰ أفكارنا عن الرغبة” .
لأن “مائدة أفلاطون” تشرح ماهو معروف باسم “ديوتيما سقراط” حين نَسبَ (آيروس) إلـٰه الحب والرغبة والمكر كوالدٍ للإلـٰه (آيروس) ، بينما كانت والدته هي الفقر و الحاجة . ليحذو (آيروس) حذو والديه :
“هو في حالة حاجةٍ دائمة ، فيلجأ باستمرار إلىٰ المكر أو الحيلة كي يلبيها وباعتباره إلـٰهاً للحب ، يعلم بأن الحب لايمكن أن يكون في الشخص الآخر إلا إذا شعر بنفس الحاجة أيضاً . وذلك ما كانت تفعله سهامه باختراق قلوب الناس ، فتجعلهم يشعرون بنقص ، بألم .. بجوع . وهذا هو جوهر مهمة المغوي على غرار (آيروس) الذي يدعوك إلىٰ أن تخلق جرحاً في ضحاياك من خلال استهداف نقاط ضعفهم . لأن كل ما تحتاج إليه هو الجرح ، وشعورهم بـ(اللاأمان) الذي يجب عليك توسيعه قليلاً كي يعيشوا الإحساس بالجرح قبل أن يقعوا في الحب” .
“كلما طاردت شخصاً ما بشكل واضح ، كان تنفيرك إياه أمراً أكثر ترجيحاً” ..
ويخصص (أندريه جيد) مساحةً لعرض مناقشة الحوار الذي يدور بين (سقراط) وبين شاب وسيم يدعى(القيبادس) حيث كان الشاب يحاول إغواء (سقراط) ليمارس معه الجنس ، لكن (سقراط) يرفض ذلك في محاولة لإقناع “القيبادس” الابتعاد عن “الإغواء الشهواني” من وراء قناع الحب ، لأن الحب يسمو بالإنسان ، ولأن الحب واحد لايفرِّق بين حب شاب أو حب فتاة ، ورأىٰ في إجابات (سقراط) محاولةً للإساءة إلىٰ “المثلية الجنسية” التي يؤمن (أندريه جيد) بإفشاء ممارستها كحقٍّ من حقوق الإنسان الشائعة بترويجها اليوم ، ويقرر عام 1907أن يبدأ بتأليف كتاب يدافع فيه عن ترويج الحب الشاذ “المثلية الجنسية” كما جاء في وصايا(التلمود) اليهودي وكما أقرّته بنود (بروتوكولات حكماء صهيون) ، وكان كتابه بعنوان “كوريدون” يبعث من خلاله برسالة إلىٰ صديقه الكاتب الأمريكي (أوسكار وايلد) يشرح له خطته في تأليف هذا الكتاب رغم معارضة زوجته الشديدة التي تصر علىٰ عدم نشره برغم الحجم الصغير للكتاب إلا أن (اندريه جيد) استغرق في كتابته ثلاثة عشر عاماً ، وقد كتبه بشكل محاورات ، وقام (أندريه جيد) عام 1911م بطباعة محاورتين منه كنسخ لم تتجاوز الاثنتي عشرة نسخة وزّعها علىٰ عدد من أصدقائه ، ولاقت المحاورتان معارضة كبيرة من الجميع ، حتى أن الشاعر الفرنسي (بول فاليري) نصحه بإحراقها ، لكنها أثارت اهتمام (مارسيل بروست) مؤلف مجموعة “البحث في الزمن المفقود” الذي كتب له :
“إن القيمة السلبية التي يراها البعض في كتابك هذا ، تصير قيمة إيجابية بمجرد أن تتحوّل إلىٰ عذاب يكابده المحبوب” .
ليقوم بعدها بطباعة خمسين نسخة يوزعها علىٰ معارفه الذين كان منهم (أناتول فرانس) الذي كتب مقالاً يدافع فيه عن الكتاب وعن ترويج “المثلية” :
“هناك الفنانون الحقيقيون ، والكتّاب الأصلاء الذين لايتساءلون مع أنفسهم ولو للحظة واحدة عما إذا كانت وجوه القراء تحمَرُّ أو لاتَحمَرّ . إنهم يتمتعون بحب الأدب وبالحماسة للحقيقة ، وهم لايكتبون من أجل طبقة ما ، بل يطمحون إلىٰ الكتابة للعصور القادمة. أما قوانين الشرطة وأخلاق العقلاء المصادَق عليها رسمياً ، فإن هذا كله يتلاشىٰ عندهم ولا يتمتع بأهمية . إنهم يتوجهون نحو الحقيقة ، نحو كتابة الروائع بالرغم من كل شيء وفوق كل شيء ، دون أن يقلِقوا أنفسهم بالفضيحة التي تَجُرُّها عليهم جسارتهم والحمقىٰ الذين يتهمونهم” .
ويكتب (أندريه جيد) في مذكراته اليومية يقول :
“يبدو لي أن كل كتاب من كتبي لم يكن ثمرة حالة داخلية جديدة ، بقدر ما هو سبب لها . ذلك إنني ما أكاد أهمّ بتأليف الكتاب حتىٰ يسيطر هذا الكتاب عليّ كلياً” .
ويوافق في العام 1925 علىٰ نشر كتابه “كوريدون” كاملاً الذي يتحدث عن تشجيع “المثلية” وترويجها برغم تحذيرات جميع أصدقائه ومعارفه الذين توقعوا أن يثير الكتاب ردود فعل عنيفة وغاضبة ضده . ورغم أن الكتاب كان أقرب إلى سيرته الذاتية و لحياته الجنسية ، إلا أنه قرر المضي في التجربة ومواجهة المجتمع بأفكاره ، وكان الكتاب عبارة عن محاورات بين “كوريدون” الذي يشجع علىٰ ممارسة فاحشة الشذوذ الجنسي ، وبين الراوي الذي يُدين هذه الممارسات ، ليظهر الكتاب وكأنه مخصص للإجابة علىٰ اتهاماتٍ أساسية موجهة ضد “المثلية الجنسية” لأنها تخالف الطبيعة البشرية ومُضرَّة بالمجتمع . ليردَّ (أندريه جيد) علىٰ ذلك مدافعاً من خلال حوارات شخصية “كوريدون” الطالب الذي يدرس الطب عندما تعرّف علىٰ “الراوي” ، لكن ظروف الحياة تفرق بينهما ويلتقيان بعد سنوات ، حيث يسكن “كوريدون” إحدىٰ الشقق هناك ويبدأ الحوار وكأنه “مونولوج داخلي” يديره (أندريه جيد) مع نفسه ، فيعرض شقة “كوريدون” وفيها يشاهد “الراوي” صورةً للشاعر الاميركي (والت وايتمان) ويدور الحوار حول شذوذ (وايتمان) الجنسي ، إذ يؤكد “الراوي” أن أشعار (وايتمان) تنفي عنه تهمة الشذوذ لأنها أشعار طبيعية عن الحياة وعن الناس ، إلا أن “كوريدون” يفاجئ “الراوي” بأنه انتهىٰ من كتابة مقال يرد فيه علىٰ الذين يقولون إن (وايتمان) عاش حياة جنسية طبيعية ، لأن حياته الطبيعية هذه حسب رأي “كوريدون” لاتنفي عنه صفة الشذوذ ، وأن المقال في أساسه هو “دفاع عن شذوذ وايتمان” . وحينها يعترض الراوي علىٰ حديث “كوريدون” وإصراره علىٰ أن الشاذين يتفاخرون بشذوذهم في أحاديثهم الخاصة إلا أنهم يخافون مواجهة الجمهور ، مثل (أوسكار وايلد) الذي يحاول انكار تهمة الشذوذ عنه ، ويتراجع أمام ضغوط الرأي العام . ليتوجّه “الراوي” في الرواية بسؤاله المباشر إلىٰ “كوريدون” متى شعر بأنه شاذ ، فيجيب بأن الأمر كان خافياً عليه ، حتى تزوج من الفتاة التي ملكت قلبه ، إلا أن فكرة إخفائه الشذوذ كانت تعذبه ولهذا قرر أن التعايش مع حالته :
“ليس المهم أن يشفىٰ المرء من مرضه ، بل المهم أن يتمكن من التعايش مع الداء الذي يعاني منه” .
ويؤكد “كوريدون” بأنه غير شاذ في نظر نفسه لأنه يعيش حالة يرضاها وتسعده مهما كانت غير مألوفة في المجتمع !!..
ويختتم “كوريدون” حواره بأنه لن يدافع عن شذوذه ، بل يريد إقناع الناس أن يؤمنوا بأن الأمر طبيعي من وجهات النظر الأخلاقية والاجتماعية وحتىٰ التاريخية أيضاً .
كل ماكان يهدف إليه (أندريه جيد) من نشر كتابه هو أن يكون بحثاً أقرب في واقعه إلىٰ دراسة علمية يثبت فيها أن الممارسات التي تتعلق بالميول إلىٰ “المثلية الجنسية” هي حالة شائعة في مملكة الحيوان مستشهداً بالفيلسوف الفرنسي (غيلبرت باسكال) الذي كتب يقول :
“إنني أقدّر بأن هذه الطبيعة ليست في ذاتها عادة أولية بقدر ماهي طبيعة ثانية” .
وهو ماسبق أن قال عنه الفيلسوف (ميشيل دي مونتني) :
“إن قوانين الضمير التي تزودنا بها الطبيعة ساعة مولدنا ، تتولّد من العادة” .
وهو ماحوّله (أندريه جيد) إلىٰ سلاحِ دفاعٍ يستخدمه “كوريدون” في الردّ علىٰ “الراوي” الذي يؤمن بأن طبيعة الإنسان هي طبيعة نقية وشاملة . وليؤكد (جيد) من خلال شخصيته الروائية “كوريدون” بأن أصحاب النظريات الحقيقية في الحب قليلون جداً حتى وإن بدوا بمثالية “أفلاطون” أو ، كما تصفهم كتابات (شوبنهاور) . ولا يهمل “كوريدون” أن يستشهد في حواره بفن النحت الإغريقي ، لأن النحات كان شديد الحرص علىٰ إظهار جسم الرجل عارياً ، بينما ينحت جسم المرأة مكسواً بغطاء يستر عريها ، وبذلك يريد “كوريدون” أن يصل إلىٰ النتيجة التي تقول “إن جسم المرأة هو مايفتقر إلىٰ الجمال الذي يتوفر في جسم الرجل وهو مايدفعها للجوء إلىٰ العمل على تجميل نفسها وجسدها بشكل دائم” .
وعندما قرر (أندريه جيد) أن ينشر روايته “كوريدون” لاقىٰ تشجيعاً كبيراً من (مارسيل بروست) أثناء لقاء بينهما في منزل (مارسيل بروست) الذي كان قد قرأ مسودات الرواية ، وقبلها كان قد أصدر الجزء الأول من روايته الذاتية “البحث عن الزمن المفقود” والتي دافع فيها (بروست) عن حالته الجنسية ووصف نفسه و”المثليين” غيره :
“هؤلاء الجنس الملعون الذين يضطرون إلىٰ العيش في زَيف وكذب ، لأنهم يدركون أن رغباتهم عارٌ لابد من معاقبتهم عليها” .
ولذلك يقول (أندريه جيد) إن زميله (بروست) ما أحب النساء في حياته إلا من الناحية الروحية !!.
وبعد صدور رواية “كوريدون” بطبعتها الكاملة ثارت ثائرة الكنيسة الفرنسية ومعها الفاتيكان ، وبادروا إلىٰ إصدار قرار كنسي بتحريم أعماله لأنها تشجيع علىٰ الرذيلة وتجذيف في الدين ، حيث جاء في القرار البابوي من الفاتيكان :
“إن كتابات أندريه جيد جديرة بالإدانة . والحال إن موهبة الذكاء الداخلي والشاعرية الثرية التي مُنحها الكاتب تجعل الحكم عليه أكثر إثارة للشجن ، ولكنها تجعل منه في الوقت ذاته ضرورة قصوىٰ . إن مكانة (أندريه جيد) في العالم المسيحي هي بين الأعداء والمفسدين ، وبين أنصار عدو المسيح” . والمقصود بهم (اليهود) .
ومما زاد الأمر سوءاً هو الموقف المتشدد الذي اتخذه الفاتيكان من رواية “اللا أخلاقي” وبعدها رواية “كوريدون” ليكتمل قرار الحظر مع صدور رواية “مزيفو النقود” التي قال عنها (أندريه جيد) بعد سماعه خبر تحريمها من الفاتيكان أيضاً :
“دع كل شيء يمكن أن يقع ، لأنني أريد كل عكس دون تحفظ”.
ولم تكن الكنيسة وحدها التي وقفت ضد (جيد) بل وحتى الأكاديمية الفرنسية التي رفضت طلباً تقدَّم به بعض أصدقائه لانتخابه عضواً فيها ، وكان رد الاكاديمية صريحاً وواضحاً بان كتابيه سيئي السمعة “اللا أخلاقي و كوريدون” يقفان حائلاً دون ذلك . وقد كتب (أندريه جيد) في مذكراته اليومية بأنه لو اختير عضواً في الأكاديمية الفرنسية فإنه سيعيد كتابة مُقدِّمةٍ جديدة لروايته “كوريدون” يشرح فيها الأهمية البالغة لهذه الرواية في دفاعها عن “المثلية الجنسية” إلا أن قرار الأكاديمية الفرنسية لم يمنع الأكاديمية السويدية من أن ترشحه لنيل جائزة “نوبل” التي حصل عليها عام 1947 ، وقد جاء في قرار اللجنة إشارة إلىٰ جرأة (أندريه جيد) وشجاعته في كتابة “كوريدون” ومواقفه المتميزة في وجه النفاق الاجتماعي ، وحبه للحقيقة المثبتة في كتاب (البروتوكولات) !!.
ويكتب (أندريه جيد) وفي رسالته إلىٰ الشاعر (بول كلوديل) الذي كتب مقالة يفضح فيها مقاصد رواية “كوريدون” يقول له :
“إنني لم اختر أن أكون ما أنا عليه” .
ليرد عليه (بول كلوديل) برسالة يقول له فيها :
“ولكنك أنت الذي تتحدث عن نفسك بصراحة ، وتجعل كل إنسان يرىٰ أفعالك . إننا لم نشهد من قبل هذه الوقاحة ولم يسبق لكاتبٍ أن خاض في هذا الموضوع مثلما فعلت أنت ، وحتىٰ أن (أوسكار وايلد) نفسه لم يفعل ذلك” .
وقد عمد الإعلام الغربي عموماً علىٰ تلميعِ صورة (أندريه جيد) وجَعلِه من الأدباء الذين لهم دورهم الأساسي في تطوّر الأدب الفرنسي ، وبأنه طرحَ في كتاباته قضايا أدبية وأخلاقية مُجتمعيّة (بشجاعةٍ) أدبيّة !! بغض النظر عن مناقشة مدىٰ صحة أفكاره ، أو عرض حقيقة توجهاته كما طرحها خلال مسيرته الأدبية والتي حرَّفَها ذلك الإعلام عن سابق قصد ليجعلها مجرد تَطرُّقٍ للمشاعر الإنسانية التي تستوجب وتحتمل التعبير عنها بشتّى الوسائل .
Discussion about this post