كتب رياض الفرطوسي
في الجغرافيا، يقال إن الخليج هو الخاصرة الدافئة للعالم العربي.
لكن في السياسة، باتت هذه الخاصرة رخوة؛ رخوة بالترف، وبالاعتياد على الأمان، وبالانشغال بما يُلمّع الصورة لا بما يصون المصير.
منذ عقود، تسلّل المشروع الصهيوني إلى قلب الخليج لا عبر الجيوش، بل عبر “المستثمرين”.
لم يأتِ على ظهر دبابة، بل في طائرة رجال أعمال.
يدخل بثوب التطوير، وبشعار “التبادل الثقافي”، وبابتسامةٍ على غلاف اتفاقية.
وهكذا، شيئاً فشيئاً، تُنتزع السيادة من الداخل، بلا صوت ولا دماء، تماماً كما تُنتزع الروح من جسدٍ نائم على الذهب.
في منتصف التسعينات، كانت الأصوات القليلة التي تراقب المشهد الخليجي ترى بوضوح أن هذه المنطقة تمشي على خاصرةٍ رخوةٍ من التاريخ.
كان واضحاً أن العداء للغاصب يُمارس بالعاطفة لا بالتجربة، وبالإنابة لا بالجرح.
فمن لم تَمسَّه النار مباشرةً، يظن أن الدخان مجرّد غيمةٍ عابرة.
فلم نحمل شهيداً من بيوتنا إلى المقابر، ولم نُهدم فوق رؤوسنا بيتاً كما حدث في فلسطين.
ومن لا يعرف وجع الجرح، يظن أن الصبر عليه سهل.
ومع مرور الوقت، تحققت نبوءته:
الاختراق بدأ بالمال، واستمر باللامبالاة.
حتى صار التعايش مع العدو مشروعاً اقتصادياً لا فضيحة وطنية.
لكن “سادية السياسة” لا تتجلّى في التطبيع وحده، بل في طريقة إدارة البيت الخليجي نفسه.
مجلس التعاون، الذي وُلد عام 1981 كأملٍ في الوحدة، أصبح صورةً أرشيفية بلا حياة.
الفوارق بين المواطن والمواطن في دول الخليج لا تُقاس بالأرقام، بل بالكرامة.
فأحدهم يتقاضى ما يعادل ميزانية قريةٍ كاملة، وآخر يبحث عن عملٍ في وطنٍ يعوم على النفط.
وحين تُطرح فكرة المساواة، تُدفن في لجانٍ وملفاتٍ وخطاباتٍ عن “السيادة الوطنية”.
سيادةٌ تُستدعى ضد الجار، لا ضد الأجنبي.
وهنا تبدأ السادية: حين تمارس الدولة قسوتها على نفسها بدل أن تواجه خصمها الحقيقي.
ثم تأتي إيران — الجارة الثقيلة بالحضور والتاريخ — لتذكّر الخليج بما يمكن أن تصنعه الإرادة حين تمتلك مشروعاً واضحاً.
فهي دولة تعرف كيف تستثمر موقعها الجغرافي وثقلها السكاني لتبني لنفسها مكاناً على خريطة التأثير الإقليمي،
بينما لا يزال الخليج يبحث عن صوته المشترك وسط تعدّد الأصوات والاتجاهات.
المسألة ليست في المقارنة، بل في الدرس:
حين تمتلك الدول رؤيةً متماسكة وتعرف كيف تتحدث بلغة المصالح، تصبح فاعلًا لا مفعولًا به.
أما الغياب عن مشروعٍ جامعٍ وواضح، فيجعل الساحة مفتوحة لكلّ من يريد أن يملأ الفراغ — لا بالضرورة بالعداء، بل بالحضور الأقوى.
أما أمريكا — راعية الأوهام — فلا تحتاج إلى الخداع.
تاريخها مكتوبٌ بدماء الحلفاء، من السادات إلى ماركوس.
تمنحك الضوء الأخضر لتتقدّم، ثم تُطفئه حين تنتهي صلاحيتك.
ومع ذلك، ما زلنا نصدّقها، كمن يعشق جلاده، وهذه هي ذروة السادية السياسية.
الدولة القوية ليست تلك التي ترفع راية السيادة في وجه شقيقتها، بل تلك التي تُنتج سلاحها وتبني اقتصادها وتفكر بعقلٍ راشدٍ في لحظة القرار.
أما من يستورد كل شيء — من الطعام إلى الموقف — فلا يملك من السيادة إلا الاسم.
كل نكسةٍ مرّت علينا كانت فرصةً للوعي، لكننا خرجنا منها كما دخلنا إليها:
ببياناتٍ أنيقة، وصورٍ جماعية، ونسيانٍ سريع.
كأننا نتدرّب على الهزيمة حتى لا نفاجأ بها.
“سادية السياسة” ليست مصطلحاً أكاديمياً فحسب، بل حالةٌ نفسية تمارسها أنظمتنا حين تعجز عن مواجهة عدوّها، فتصبّ غضبها على نفسها.
كمن يخاف من الظل، فيكسر مرآته.
وكأنّ السياسة في عالمنا العربي فقدت قدرتها على الشفاء، فصارت تبحث عن الألم لتتذكّر أنها ما زالت حيّة.
وربما، حين يشفى الخليج من هذه السادية،
يكتشف أن الذهب الذي نام عليه لم يكن دفئاً،
بل رمالًا متحركة، تخفي تحته سؤالًا مؤجّلًا منذ قرن:
من نحن، وإلى أين نمضي؟
Discussion about this post