بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
ما إن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وتوقفت الطائرات الإسرائيلية عن شن الغارات وقصف المدنيين الفلسطينيين، وانسحبت قوات جيش الاحتلال إلى ما بعد الخط الأصفر المتفق عليه بموجب خطة ترامب، وكفت عن الدبابات ولو نسبياً عن إطلاق قذائفها، حتى انتشرت في شوارع قطاع غزة ضمن المناطق المحددة، التي تشكل أقل بقليل من نصف مساحة قطاع غزة، أكثر من سبعة آلاف من عناصر حركة حماس، المكلفين بحفظ الأمن، وضبط الأوضاع، ومنع الاعتداءات، ومساعدة المواطنين الفلسطينيين في العودة إلى مناطقهم، وتسوية مشاكلهم، حيث كان من بين العناصر التي انتشرت، قواتٌ شرطية، وأخرى تابعة للبلديات والوزارات والدوائر الحكومية، وغيرها ممن قاموا على الفور بتسلم المهام الإدارية، وتسيير الحياة اليومية، للتيسير على المواطنين والتخفيف عنهم.
ظهر المكلفون بحفظ الأمن وضبط الأوضاع بزيهم الرسمي، وشاراتهم الدالة على وظائفهم والمميزة لمهامهم، وقد حرصوا على مظهرهم الخارجي وحركتهم الظاهرية، وانتشارهم المنسق، فبدا عليهم الترتيب والنظام، والتنسيق واتقان الأدوار، والحرص على القيام بالواجب، فالمهام الملقاة على عاتقهم وإن كانت ملحة وضرورية، إلا أنها كبيرة وخطيرة، في ظل قطاعٍ مدمرٍ مخربٍ لا شيء فيه بات صالحاً للعيش والحياة، وعشرات آلاف النازحين عن مناطقهم، والمحرومين من المأوى والسكن، وفي ظل عدوٍ خبيثٍ مكارٍ يتربص بهم، ويتمركز قريباً منهم، بدباته وآلياته، فضلاً عن مسيراته وطائراته، الأمر الذي يجعل المهمة صعبة وشاقة، وعسيرة وخطيرة.
كان لابد من التحرك السريع والفاعل، والانتشار المنضبط والواسع، في كل المناطق المتاحة من قطاع غزة، لمنع الفوضى وبسط النظام، ورفع المظالم ومنع التغول والاعتداء، فالحرب لها تداعيتها وتكشف عن بعض الظواهر والعوارض السلبية التي يجب التصدي لها وعلاجها، وقد سارعت أغلب الدوائر والمؤسسات المدنية والخدمية إلى التعميم على من بقي من العاملين فيها وسائر الموظفين للالتحاق بمراكزهم ومباشرة أعمالهم، لحاجة المواطنين الماسة إلى من يسوي أمورهم، ويذلل العقبات أمامهم، ويقدم الخدمات لهم، ويستجيب إلى بعض طلباتهم حسب القدرات والامكانيات، التي هي قليلة جداً بعد أن أعدمها الاحتلال، وجعلها نادرةً جداً بالحرمان والحصار وإغلاق المعابر ومنع دخولها إلى القطاع، مهما كانت حاجة السكان لها.
ربما تفاجأ الكثيرون مما رأوا وشاهدوا، ففرح بعضهم واستبشر، وأبدوا إعجابهم بهذا الشعب العظيم، الذي خرج من تحت الأنقاض يبحث عن الحياة، ويتطلع إلى المستقبل، ويرنو بعيونه إلى اليوم التالي بكل الأمل والثقة واليقين، وقد طوى الحزن، وعض على الجرح، وترحم على الشهداء، وتمنى الشفاء للجرحى والمصابين وانطلق يواصل الحياة، ويخوض صعابها، ويواجه تحدياتها، ويعد نفسه والعالم كله بالانتصار عليها، وإفشال كل من حاول وأدهم وقتل الحياة في نفوسهم، وحرمانهم من أرضهم ومستقبلهم في بلادهم.
وبعضهم صدم وأصابته الدهشة لما يرى، إذ كيف لهذا الشعب الذي ذاق المر على مدى عامين كاملين، لم تتوقف خلالهما طاحونة الحرب عن الدوران، وهي تفتك وتقتل، وتخرب وتدمر، وتشرد وتشتت، يفشل مشاريعهم، ويحبط خططهم، ويجبرهم على التخلي عن أحلامهم والإقلاع عن خيالاتهم، والاعتراف بإرادة هذا الشعب العظيم الذي لا يعرف الخضوع ولا اليأس أو الاستسلام.
كان الناس في قطاع غزة في حاجةٍ ماسةٍ إلى من يراقب الأسعار ويمنع الاحتكار والجشع والطمع، وينظم الأسواق وعمل البسطات، ويتابع الباعة وأصحاب المحال التجارية، ويفصل بين الناس في خلافاتهم، وكان المواطنون يشتكون من أعمال السرقة والنهب، والسطو على القوافل وسيارات المساعدات، وقد كان جيش الاحتلال يشجع هذه الظواهر ويرعى الكثير من هذه الحالات ويحرص عليها ويحمي أفرادها، لما لها من أثرٍ سيءٍ على المجتمع، ولما تحدثه من تصدع وخلافٍ، وقد كان يتعمد خلقها وتعميقها، مما استدعى محاربتها وملاحقة المتورطين فيها ومحاسبتهم ومعاقبتهم، وهو ما أرضى أغلب المواطنين وأشعرهم بالطمأنينة والأمان، إذ اكتووا من هذه العصابات وعانوا منها، وتعرضوا للنهب والسلب والقتل على أيديها.
لعل هذه الصور والمشاهد قد أسعدت الكثير من أبناء شعبنا الفلسطيني في الداخل والخارج، وأشعرتهم رغم هول ما أصابنا، وفداحة ما حل بنا، أننا شعبٌ يستحق الحياة، وأننا بخير ونستطيع مواصلة العيش واستمرار الحياة، والسير قدماً نحو المستقبل بكل عزيمةٍ واقتدار، وأملٍ ويقين، يسر الصديق والمحب والأخ والشقيق، ويغيظ العدو والكاره، والمتآمر والحاقد.
يتبع ……
Discussion about this post