جئنا إلى هذه الأرض لا لنؤدي امتحاناً، بل لنعيش التجربة البشرية بكل ما فيها من دهشةٍ وألم.
جئنا لنختبر ألوان المشاعر الإنسانية، من الفرح الطفولي إلى الحزن الذي يعلّمنا النضج.
وعندما نغوص في جوهر التجربة، نكتشف أن كل المشاعر التي تعبرنا تتفرّع من أصلين اثنين يشكّلان قطبي الوعي: {الحب} و{الخوف}.
من هذين الجذرين تنبثق كل فكرة، وكل انفعال، وكل سلوك إنساني.
الفكرة تولد فكرة أخرى، والمشاعر التي تتبعها تحرّك أفعالنا، فتتشكل تجربتنا في الحياة.
وهكذا، فإن كل ما نختاره أو نفكّر به أو نشعر به، إنما يصدر إمّا عن {صوت الحب} أو عن {صوت الخوف}، ولا ثالث بينهما.
صوت الحب هو الهمس الداخلي الذي يجعلنا نرى الجمال حتى في العادي، هو الصوت الذي يقول لنا: {أنت كافٍ، أنت محبوب، الحياة معك ومن أجلك}.
هو الطاقة التي تدفعنا للعطاء دون خوف، وللتقبّل دون شروط، ولخوض المجهول بفضولٍ لا برعب.
إنها طاقة توسّع، انفتاح، وحرية.
أمّا صوت الخوف، فهو الصدى الذي يذكّرنا دائماً بجروحنا القديمة، فيدفعنا إلى ارتداء الأقنعة.
هو الصوت الذي يهمس: {احذر، لا تفتح قلبك، لا تثق، لا تخسر، لا تفشل}.
إنه الصوت الذي يقيّدنا، فيجعلنا نعيش على حافة الحياة بدل أن نغدو جوهرها.
الخوف طاقة انقباض وثِقَل، تعزلنا عن ذواتنا وعن الآخرين، وتلد الألم من رحم الوهم.
الوعي الحقيقي يبدأ حين نُميّز بين الصوتين.
حين نصغي إلى الإحساس الداخلي الذي يعمل كبوصلة توجه سفينتنا نحو الاتساع لا الانكماش، نحو النور لا الظل.
في كل مرة نختار فيها الحب، نتسع من الداخل، ونسمح للنور أن يتدفق فينا أكثر.
وفي كل مرة نستسلم فيها للخوف، نضيق وننغلق على احتمالات الحياة.
إنها حركة مستمرة بين انفتاحٍ وانقباض، بين {نعم} و{لا}، بين الحياة والمقاومة.
لكن من أين جاء هذان الشعوران أصلاً؟
من أين وُلد الحب والخوف فينا؟
إن الجذور تمتد إلى البدايات الأولى للوعي الإنساني، إلى اللحظة التي وُلد فيها الإنسان من رحم الأسطورة.
منذ أن قيل له إنه خُلق بعد خطيئة، وإن حبَّ الإله ورضاه مشروطان بطاعةٍ وأوامر، بدأت الحكاية.
هناك، وُلد الخوف، لا من الحياة بل من الإله ذاته.
أصبح الحب مشروطاً، مشوباً بالحذر والقلق.
صار الإله في الوعي الجمعي قوة تُرضى لا حباً، بل خشيةً من العقاب.
ومن تلك البذرة الأولى، تفرّع الشك، وتسرّب القلق إلى أعماق الإنسان، ليحرمه من السلام الذي هو طبيعته الأصلية.
غير أن الروح، في جوهرها، تعرف طريق العودة.
تذكر أن الأصل لم يكن الخطيئة، بل {الحب الذي خلق كل شيء}.
حين نستعيد هذا الأصل، نتحرّر من معادلة {الثواب والعقاب}، ونعرف أن الخوف لم يكن إلا ظلاً للحب، ونداءً للعودة إليه.
وحين نختار الحب عن وعي، نعيد الكون في داخلنا إلى توازنه، ونصبح مرآة للحق الذي خُلقنا منه:
حبٌّ لا يخاف، ووعيٌ لا يُقيّد.
في النهاية، لسنا مطالبين بأن نلغي الخوف، فهو جزء من التجربة، بل أن نراه بعين الوعي كي لا يقودنا من الظل.
كل خوفٍ يزورنا يحمل في جوفه نداء حبٍّ نسي طريقه، وكل وجعٍ فينا هو بابٌ نحو شفاءٍ أعمق.
حين نختار أن نحب رغم هشاشتنا، أن نثق رغم خيباتنا، أن نفتح قلوبنا للعالم دون ضمانات..
حينها فقط نصير أحياء بحق.
على ضفاف الوعي، يتّسع المعنى:
لسنا كائنات تبحث عن الله خوفاً من الجحيم،
بل أرواحٌ تتذكّر أن الله هو {{الحب}} الذي خُلقنا منه،
وأن العودة إليه ليست طقساً ولا عقيدة، بل {اختياراً يومياً للحب وسط الفوضى}.
دمتم بوعي
















Discussion about this post