سلسلة مقالات تثقيفية تصدر عن دار الشعب للنشر
#الإسماعيليون_في_سورية
النشأة التاريخية و الدور الحالي
المذهب الباطني والعقل العملي في مجتمعٍ متحوّل
يشكّل الإسماعيليون أحد أقدم المكوّنات الدينية والفكرية في سورية الحديثة، ويمتدّ وجودهم في البلاد منذ قرون طويلة، ليقدّموا نموذجًا فريدًا من التفاعل بين العقيدة والفكر والتنظيم الاجتماعي.
ينتمي الإسماعيليون إلى التيار الشيعي، وهم فرعٌ من الإمامية انفصل بعد وفاة الإمام جعفر الصادق (ع) في القرن الثامن الميلادي، عندما اعترفوا بإمامة ابنه إسماعيل، ثم أولاده من بعده.
ومنذ ذلك الانقسام، أخذ المذهب الإسماعيلي طابعًا فكريًا وفلسفيًا خاصًا، تميّز بالمنهج التأويلي والبحث العقلي في النصوص الدينية.
من الدعوة السرّية إلى الدولة الفاطمية
انطلقت الدعوة الإسماعيلية في بداياتها ضمن سياق سرّي، قبل أن تبلغ ذروتها السياسية مع قيام الدولة الفاطمية في القرن العاشر الميلادي، التي امتدّ نفوذها من شمال إفريقيا إلى الشام ومصر واليمن.
في تلك المرحلة، تحوّلت الدعوة من فكرة دينية إلى مشروع دولة معرفية – إدارية – اقتصادية، وبرز دور “الدعاة” في نشر التعليم والتنظيم، مما جعل الإسماعيليين أول من ربطوا العقل بالدعوة، والمعرفة بالحكم.
وبعد سقوط الدولة الفاطمية، انتقل مركز الثقل إلى قلعة ألموت في إيران بقيادة حسن الصبّاح، الذي جعل من الفكر العقائدي أداة للمقاومة والمرونة السياسية، قبل أن تمتدّ الدعوة إلى سورية حيث استقرّ الإسماعيليون في مناطق السلمية ومصياف وقدموس والخوابي.
الوجود في سورية: من القلاع إلى المدن
تاريخيًا، وجد الإسماعيليون في المناطق الجبلية بيئةً حاضنة لحركتهم الفكرية والسياسية، خصوصًا في السلمية، التي أصبحت مركزهم الروحي والإداري، ثم توسّع وجودهم إلى مصياف والكرك والقدموس ووادي العيون.
مع تشكّل الدولة السورية الحديثة، انتقل جزء كبير منهم إلى المدن الكبرى كدمشق وحلب وحمص، حيث برزت نخب فكرية وطبية وإدارية لعبت أدوارًا نوعية في الحياة العامة.
ورغم انفتاحهم التدريجي، ظلّت الطائفة محافظة على مؤسساتها الداخلية ومنظومتها التنظيمية الخاصة، التي تجمع بين المرجعية الدينية والقيادة الاجتماعية.
العقل التأويلي والرمزية الفلسفية
يمتاز الفكر الإسماعيلي بعمق تأويلي، يرى أن للنص القرآني مستويات من المعنى، ظاهرًا وباطنًا، وأن الوصول إلى الحقيقة يتطلّب العقل والمعرفة لا الحرفية الجامدة.
هذا الاتجاه جعل الإسماعيليين أقرب إلى المدرسة الفلسفية التي تمزج بين العقيدة والعقلانية، حيث يظهر الدين عندهم كنظام رمزي لفهم الكون والإنسان.
من هنا، يمكن القول إن المكوّن الإسماعيلي أسّس مبكرًا لفكرة “الدين المعقول”، التي أعادت في عصرنا صياغة العلاقة بين الإيمان والعلم.
العلاقة مع الدولة السورية
حافظ الإسماعيليون على علاقة مستقرة وهادئة مع الدولة السورية، تجنّبوا خلالها الانخراط في النزاعات الطائفية أو الأيديولوجية.
لم يسعَ المكوّن إلى تمثيل سياسي مستقل، بل اندمج في مؤسسات الدولة عبر التعليم والوظيفة العامة والإدارة المحلية.
رغم ذلك، بقيت مناطقهم تعاني من تهميش تنموي واضح، وخصوصًا السلمية التي تُعدّ اليوم واحدة من أكثر المدن تضرّرًا اقتصاديًا، رغم غناها الثقافي والاجتماعي.
وفي المقابل، ظلّت النخب الإسماعيلية تساهم في مجالات الطب، التعليم، والإدارة، بما يعكس نزعتها الإصلاحية الهادئة.
خلال الحرب السورية
في زمن الحرب، التزم الإسماعيليون سياسة “الحياد الدفاعي”، أي الدفاع عن مناطقهم دون الانخراط في الصراعات الواسعة.
ساعدهم ذلك في تجنّب دمارٍ واسع، لكنه جعلهم أيضًا أكثر عزلة.
تزايدت الهجرة من مناطقهم نحو الخارج، غير أن المجتمع بقي محافظًا على تماسكه الداخلي ورفضه للخطاب الطائفي.
وفي الوقت نفسه، ظلّت السلمية مركزًا للحوار والتنوير، رغم تعرضها لاعتداءات إرهابية عدّة، وهو ما عزّز صورتها كرمزٍ للمدنية والاعتدال.
الدور الاقتصادي والاجتماعي: من السلمية إلى التنمية الوطنية
مع مطلع الألفية الجديدة، انتقل المكوّن الإسماعيلي من الفضاء الديني إلى الفضاء المدني التنموي عبر شبكة الآغا خان للتنمية (AKDN)، التي مثّلت أحد أهم الفاعلين في الاقتصاد الاجتماعي السوري.
تأسست هذه الشبكة في سورية عام 2001 باتفاق رسمي مع الحكومة، لتكون أول منظمة دولية غير حكومية تعمل بحرية داخل البلاد.
ورغم جذورها الإسماعيلية، فإنّ مشاريعها لم تُصمَّم لطائفة بعينها، بل غطّت معظم الجغرافيا السورية، واضعةً الإنسان في مركز التنمية لا انتماءه.
شبكة الآغا خان: التنمية بوصفها عقلًا منظمًا
تعتمد شبكة الآغا خان فلسفة قائمة على تمكين الأفراد لا إعانتهم، من خلال التعليم، والصحة، والزراعة، والتمويل الصغير، والتراث الثقافي.
في حلب ساهمت الشبكة في ترميم الأسواق القديمة قبل الحرب، وفي السويداء ودرعا دعمت الزراعة الصغيرة واستصلاح الأراضي، وفي حماة وريف دمشق أطلقت برامج القروض الصغيرة والمشاريع النسائية.
كما عملت على إحياء التراث العمراني وترميم المباني الأثرية بالتعاون مع مديرية الآثار السورية، وأسّست مراكز تدريب مهني وتعليمي، وأسهمت في تطوير شبكات مياه الشرب والصرف الصحي في القرى النائية.
هذا الانتشار جعلها فاعلًا وطنيًا حقيقيًا في التنمية المحلية، إذ تجاوزت حدود الطائفة إلى بناء مفهوم جديد للتنمية كـ”عقل وطني مشترك”.
الآغا خان والدبلوماسية التنموية
يُمكن وصف عمل الشبكة بأنه شكل من الدبلوماسية التنموية الناعمة، إذ أسهم في كسر العزلة التي كانت تحيط بسورية قبل عام 2011، من خلال ربطها بمؤسسات دولية محترفة في العمل الإنساني.
كما أدخلت مفاهيم جديدة إلى البيئة الإدارية السورية: الشفافية، المشاركة المجتمعية، واستدامة المشاريع.
بهذا المعنى، لم يكن العمل التنموي الإسماعيلي عملاً خيرياً فقط، بل كان تطبيقًا عمليًا لفكرٍ يرى أن التغيير الاجتماعي يبدأ من البنية الاقتصادية.
بين الفكر والممارسة
يمتلك الإسماعيليون قدرة لافتة على تحويل الفكر الفلسفي إلى عملٍ منظم.
فكما يقوم مذهبهم على “النظام الباطني للعقل”، يقوم مشروعهم التنموي على “النظام الاجتماعي للعقل العملي”، حيث تتحول الأفكار إلى مؤسسات، والعقيدة إلى كفاءة إدارية.
بهذا، يُعيد المكوّن الإسماعيلي تعريف دوره في سورية: من طائفة فكرية إلى فاعلٍ مدني–اقتصادي يسهم في إعادة بناء المجتمع.
خاتمة
يقدّم الإسماعيليون في سورية مثالاً على الطائفة التي استطاعت أن تحافظ على هويتها الخاصة دون أن تنغلق على ذاتها، وأن تترجم تراثها الفكري إلى عقلٍ مدني منتج.
لم ينظر السوريون إلى أسماء كبيرة مثل محمد الماغوط و علي الجندي و أحمد الجندي و زكريا تامر على إنهم منتج اسماعيلي بقدر ما كانوا مؤسسين للهوية الثقافية السورية.
و كما أثبتت تجربة شبكة الآغا خان أنّ التنمية يمكن أن تكون دينًا جديدًا للوطنية، وأن المجتمعات لا تُبنى بالشعارات بل بالعمل المنظم والمعرفة المتراكمة.
فكانت أعمالها في قلعة حلب و صلاح الدين قبل أن تكون في قلعة مصياف حيث بدا الامام كريم آغا خان جهودا جبارة ليتابع الامام رحيم ذات الجهود
وهكذا، يظلّ المكوّن الإسماعيلي في سورية شاهدًا على أنّ العقل حين يتحوّل إلى مشروع، يصبح أكثر فاعلية من كل الأيديولوجيات.
إعداد مجموعة من الباحثين في دار الشعب للنشر
الاشراف د. حسين راغب الحسين مدير الدار

















Discussion about this post