بقلم الناقد والأديب حيدر الاديب قراءة في السرد الوجيز للكاتبة الهام عيسى
مقدمة
تأتي القصة القصيرة جدًا كجنس أدبي لتختصر الكثافة الدامية في ومضة، وتكثّف الحدث في صورة، وتحوّل الفردي إلى جماعي. سردية صغرى تمتص السرديات الكبرى في بنية السؤال والتحريض، من هنا تنبثق نصوص إلهام عيسى، وفي مقدمتها “نفَيير”، كبنية سردية ثلاثية محكمة، تعيد تشكيل صورة الفلسطيني في ثلاثة وجوه: المرأة، الطفل، والرجل.
“نفَيير” نص أيقوني يلتقط لحظة الوجود الفلسطيني وهو يتأرجح بين الفقد، والجوع، والمقاومة. قصة قصيرة جدًا تُعيد إلى الذاكرة وظيفة الأدب في لحظة الخطر، حيث تصبح اللغة سلاحًا رمزيًا، وتتحول الكلمة إلى ما يشبه البوق الحربي، النافخ في الذاكرة والوعي معًا.
المدخل جاء مع المرأة – الجسد الذي يكتب الذاكرة، المرأة التي بترت قدمها يضعنا مباشرة أمام مأساة الجسد. المشهد يلقي ظلاله بوعي الدم ولا يتركها وحيدة إنما يحيطها بأذرع نسائية تشاركها الألم وتسدّ نزيفها. فيتحول الفرد إلى جماعة، ويتحوّل الجرح إلى ذاكرة حيّة.
المرأة في “نفَيير” بداية النص وركيزته. والبسملة التي تتلوها لحظة الألم تكشف كيف تتحوّل الروحانية إلى مقاومة، الى رصاصة تحمل عيون التاريخ واصابع الأنبياء وكيف يصبح الإيمان طاقة لاستمرار الجسد رغم البتر. المرأة في هذا السياق أرض مختزلة في جسد، تقطعها الشظايا لكنها تبقى قابلة للحياة عبر الآخرين.
وفي سياق الطفل – العين التي تحوّل الجوع إلى أفق يأتي المشهد الثاني فيضعنا أمام طفل يطل من بين الأجساد الهزيلة، مشدود العينين إلى كسرة خبز. يتحول الجوع من تجربة جسدية إلى تجربة بصرية؛ إنه يُرى قبل أن يُعاش. وفي اللحظة التي يمرّ فيها سرب حمام، يدخل النص إلى منطقة رمزية دقيقة: يتحوّل الجوع إلى صورة طائرة، كأن الطفولة تمتلك قدرة على تحويل القيد إلى أفق رمزي.
إنّ إدخال الحمام في النص مجاز تداولي يحرّك معنى الجوع من ثابت جامد إلى دالّ متحوّل. إنّه تذكير بأن الطفولة تستحضر دائمًا رمز الطيران، رمز الحرية، لتعيد قراءة العجز بلغة الأمل.
المشهد الثالث (الرجل – الصوت الذي يحرس الذاكرة) يغلق النص بالرجل الواقف على الساتر. حيث يمثل التناقض المركّب: عرق جبينه (ملح العمل والكدح) ممتزج بدمع الخسارة. رايته ممزقة، جسده بلا دثار غير أنه يبتسم ويهتف.
الصوت الخارج من صدره هو ما يمنح النص عنوانه: “نفَيير”. إعلان هوية الرجل هنا لسان المرأة المجروحة والطفل الجائع. بصرخته يتحوّل الألم الفردي إلى نداء جماعي، والجرح إلى نصّ مفتوح على المقاومة.
في جدلية الثلاثية – من الجسد إلى العين إلى الصوت نرى أن ما يميز قصة “نفَيير” أنها جدلية ثلاثية تتحرك كالمسرح التراجيدي:
الجسد المبتور (النساء).
العين المصلوبة على الجوع (الأطفال).
الصوت المشتعل بالنداء (الرجال).
بهذا التتابع، يخلق النص تطوّرًا دراميًا داخليًا: يبدأ بالجرح، يمرّ بالجوع، وينتهي بالصرخة. وهذه الحركة تتجاوز كونها عاطفية الى فلسفية أيضًا: إنها تعلن أن الفلسطيني يُعرّف نفسه عبر ألمه ورؤيته وصوته، أي عبر كامل إنسانيته.
فمن زاوية فلسفية وعند سارتر بالخصوص الإنسان يُعرِّف نفسه في لحظة الخطر. “نفَيير” يعرّف الفلسطيني في أقصى لحظاته وجودًا وانكسارًا.
وعند سيوران، الخراب امتحان للمعنى. إذ يتحوّل البتر والجوع إلى رموز قادرة على إعادة إنتاج الهوية.
وعند ريكور، الذاكرة الجريحة بناء للمعنى. “نفَيير” تجسيد لهذا، فهي نص عن الذاكرة بوصفها جرحًا حيًّا.
“نفَيير” سردية صغرى تسترد ملحمة بكامل عناصرها. النساء يسندْن الجسد، الأطفال يفتحون العين، الرجال يطلقون الصوت. ثلاثية متشابكة تصوغ غزة بوصفها عينًا لا تُغمض، وصوتًا لا يُخرس.
إنه أيقونة جماعية تختصر في بنية سردية واحدة ملحمة مقاومة.
تضع “نفَيير” نفسها في موقع ممتاز ونوعي داخل أدب القصة الوجيزة، حيث تتحوّل الكلمات إلى ما يشبه البوق الحربي، تنفخ في ذاكرة القارئ وتستدعيه شريكًا في المقاومة.
حيدر الأديب
أصل النص
نفَيير
ق. ق. ج
إلهام عيسى
شظيّةٌ خطفت قد
مها.
انحنت على التراب، همست بوجعٍ يتوضّأ بالبسملة.
حولها أيادٍ نسائيةٌ تشدّ الهواء كي لا يسيل الدم.
نساء غزة
طفلٌ يطلُّ من بين الأجساد الهزيلة.
عيناه مصلوبتان على كسرة خبز،
وفوق الطابور يمرّ سرب حمام…
فتعلّق الجوع بجناحين.
أطفال غزة
على الساتر، رجلٌ يبتسم.
ملح الجبين يمتزج بدمعة منكسرة،
رايةٌ ممزقة ترفرف بلا دثار،
وصوتٌ يصعد من صدره كشرارة:
هذا هو النفَيير.
رجال غزة


















Discussion about this post