في العام 2009 توفرت لي الفرصة لزيارة الصين.. ويومها كان الصديق والسوري النبيل، د.خلف الجراد سفيراً لسورية في الصين.. وما أكثر الدروس التي يمكن أن نتعلمها من مثل هذه الزيارة، لكنني سأحاول التركيز على ما يهمنا ويفيدنا، ونحن على ابواب بناء سورية جديدة..
***********
تفاجأنا عندما بدأنا الحديث مع الأصدقاء الصينيين، أنهم رفضوا أن نعتبرهم دولة عظمى!!؟.
لفت نظري الأمر كثيراً، وأنا المتابع لأخبار الصين، وللتوازنات الإقليمية والدولية، وأكتب عنها، وكنا نعتبر الصين من الدول العظمى.
وفي جلسة مع مسؤول صيني رفيع، استفسرت منه حول هذا الموضوع، وسألته لماذا لا تعتبرون أنفسكم دولة عظمى؟.. وكيف تصنفون أنفسكم؟.
وكان جوابه، نحن لم نصل بعد إلى مرتبة الدول العظمى!!.. نحن لازلنا دولة كبيرة نامية!!..
وسألته وما هي المقاييس التي تضعونها للدول العظمى؟.
وكان جوابه.. يوجد 46 مؤشر ومقياس للدول العظمى، ونحن حققنا حتى اليوم 17 مؤشر فقط، ولذلك لا نستطيع أن نقول إننا أصبحنا دولة عظمى..
حينها سألته، ومتى تستطيعون أن تكونوا الدولة العظمى الأولى في العالم؟..
وكان جوابه، في منتصف الأربعينات من هذا القرن.
************
لا شك أدهشني تواضع المسؤولين الصينيين، الذي لا ينظرون إلى بلادهم إلا كما هي، وبدون ادعاءات أرقام، أو زرع أوهام لدى الشعب الصيني.
اليوم وبعد ستة عشر عاماً على هذه الزيارة، تميزت الأحداث بالتسارع الكبير، وتغيرت توازنات القوى والقوة الدولية بشكل غير مسبوق، وتغيرت الصين كثيراً، وكانت أحد أسباب هذا التغير في العالم.
أبرز ما قامت به الصين، أنها حققت طموحاتها بأسرع مما كانوا يتوقعون.. وما كانوا يخططون للوصول إليه في منتصف الأربعينات، سيحدث قبل ذلك بعدة سنوات.
خلال هذه الفترة، كان المسؤولون الصينيون، يبنون بلادهم بصمت، وفق برامج طموحة ومدروسة، فيما كانت الولايات المتحدة الأمريكية، مشغولة بحروبها وغزواتها ومغامرتها العسكرية، أما روسيا، فقد كانت غارقة في تداعيات سقوط الاتحاد السوفييتي، وسياسات السكير يلتسين، الذي باع كل شيء فيها، لأجل أن يحصل على رضا الغرب، ولم ينجح في ذلك.
أنتجب النهضة الصينية تطورا مدهشا، وفي كل مجالات الحياة، والجميع يلاحظ كيف تبني المدن والطرقات والجسور والسدود، التي تعتبر أعجوبة حقيقية في مجال الهندسة والبناء، وكيف تطورت في مجال صناعة السيارات والطائرات والطاقة وغزو الفضاء، وتبدع في مجالات الاتصالات والتقنيات الحديثة، وكيف تحول الفيزياء والرياضيات إلى واقع ملموس، ووصل هذا التطور إلى الحد المدهش، والذي كان يدخل وإلى سنوات قليلة سابقة في باب المعجزات.
ومع هذا التطور لن يطول الوقت، حتى تزيح الصين الولايات المتحدة عن عرش القمة العالمية، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، وأن تخرجها من الكثير من مناطق نفوذها التقليدية، والتي بنت عليها قوتها، وفي مقدمتها منطقة شرق المتوسط وغرب آسيا، وهذا سيكون بداية أفول الامبراطورية الأمريكية، وتفككها على المدى المتوسط.
هذه النهضة المذهلة للصين، لم تأت من فراغ، وإنما كان أساسها دستور يحقق المواطنة المتساوية لكل أبناء الصين، ويحرر ويطلق طاقاتهم الإبداعية، رغم عددهم المذهل، الذي تجاوز المليار والنصف من البشر، ورغم أنهم يمتلكون المئات من الأعراق والقوميات واللغات والديانات السماوية والوضعية، ولديهم أيضاً قانون يطبق بكل صرامة على الجميع، وعلى الكبير والمسؤول قبل المواطن العادي، كما أنهم يمتلكون إدارة استطاعت تحقيق المعادلة التي كانت تبدو مستحيلة، وهي التعايش بين الشيوعية والرأسمالية.
************
بالتأكيد لم أكتب ما كتبته للدعاية للصين، رغم تجربتها الجديرة بالاحترام والبحث، لكنني كتبت كل ذلك، للوصول إلى الدرس الذي يمكننا أن نستفيد منه للحالة السورية.
فكم أتمنى أن نوقف الحديث عن أرقام وتوقعات، وزرع أحلام في الفراغ، ونتحدث عن الواقع ونعمل بصمت.
وأن نرى دستوراً، يقوم على أساس المواطنة المتساوية لكل السوريين، ويجرم كل أنواع التمييز بين سوري وسوري.
كما أتمنى أن أرى القانون، وهو يطبق بكل صرامة وعلى الجميع..
كما أتمنى أن نجيد قراءة التحولات الجيوسياسية المتسارعة في العالم، وأن نعرف كيف نوازن في علاقاتنا الإقليمية والدولية، وكيف نتوجه إلى الصين، لأنها بلد المستقبل، وتحترم الدول والشعوب الأخرى، وتتعامل معها وفق معادلة (رابح – رابح) فيما الغرب بعقليته الاستعمارية المتوحشة، لا يعترف بالآخر، ولا بالعلاقات الندية، وإنما يريدها علاقة سيطرة وهيمنة وسلب، لإرادات الدول والشعوب، وسرقة لثرواتها، وفي مقدمتها بلداننا، بما تمتلكه من مواقع استراتيجية وثروات هائلة.
حينها فقط سنستطيع أن نبني بلدنا وبسرعة، وبدل من أن نحلم بأن نكون مثل دبي أو سنغافورة أو سويسرا، سيحلم بقية العالم بأن يكونوا مثل سورية، وسيتحدث العالم عن التجربة السورية.
فنحن في سورية.. بلد متميز وغني جداً، بما نمتلكه من موقع استراتيجي، وإرث حضاري وتاريخي، ومناح معتدل، وتنوع جغرافي وبيئي وطبيعي، ونسبة تشمس مثالية، وثروات هائلة، وفي مقدمتها الثروة البشرية الخلاقة والمبدعة، ونستطيع أن نحقق أحلامنا، وأن نصبح أفضل وأغنى شعوب الأرض.
ألخص ذلك بمعادلة ذهبية تقول (أعطونا دستوراً صحيحاً، وقانوناً يطبق على الجميع، وخذوا ما يدهش العالم).
أحمد رفعت يوسف

















Discussion about this post