الفصل الأول:
عن الوعي، الألم، والعودة إلى الذات
(العقل):
أرى أن الحياة تتكرر بنفس الوجع، فقط بوجوه جديدة.
أحياناُ يكون مشهد بسيط كفيل أن يوقظ داخلي كل شيء.
اليوم مثلاً، رأيت صديقاً قديماً يحقق حلماً كنت أظنه لي.
ابتسمت له، لكن في داخلي انقبض شيء.
كأن الحياة تذكّرني بما خسرته، أو بما لم أحققه بعد.
لماذا يحدث هذا؟ ولماذا أتعثر في ذات الشعور كل مرة؟
(الروح):
ما تشعر به ليس غيرة كما تظن، بل حنين.
حنين للنسخة منك التي كانت تؤمن أنها قادرة، ثم فقدت يقينها في منتصف الطريق.
الانقباض ليس من الآخر، بل من نفسك التي ابتعدت عن حلمها يوماً ما.
هذا المشهد لم يُرسَل ليؤلمك، بل ليذكّرك بما نسيته: أن القيمة ليست في الوصول، بل في النية الصافية للسير.
حين ترى نجاح غيرك ويؤلمك، فاعلم أن الألم يشير إلى موضع لم تكتمل فيه مصالحتك مع ذاتك بعد.
(العقل):
أفهمك أيتها الروح، لكن كيف أتعامل مع هذا الشعور دون أن أكرهه أو أُبرّره؟
كيف أسمع الوجع دون أن أعلق فيه؟
(الروح):
ابدأ من الجسد.
الوجع يسكن الجسد قبل أن يسكن الفكر.
ضع يدك على صدرك أو معدتك — حيث تشعر بالثقل.
تنفّس ببطء، وقل بصمت:
“أنا أراك. لا أريد أن أهرب منك بعد الآن.”
ثم اسأل نفسك بهدوء:
“من الذي تألم بداخلي الآن؟ الطفل الذي لم يُمدح؟ الرجل الذي لم يُقدّر؟ أم الإنسان الذي لم يشعر أنه كافٍ؟”
لا تحاول إصلاح الشعور، فقط استقبله.
الاحتواء هو الفهم الصامت.
وحين تحتضن الجزء الجريح، يبدأ بالذوبان، كأنه كان ينتظر إذنك بالراحة.
(العقل):
كل هذا جميل، لكن أحياناً لا أملك الطاقة لذلك.
أشعر أني متعب حتى من محاولتي للفهم.
(الروح):
وهذا أيضاً جزء من الشفاء.
أن تعترف بأنك متعب، دون أن تلوم نفسك على التعب.
الإرهاق ليس ضعفاً، هو مرحلة العبور بين الإدراك والتكامل.
مثل الأرض بعد المطر، تحتاج وقتاً لتجف، لتتنفس، لتُثمر من جديد.
في لحظات العجز، لا تبحث عن معنى، فقط كن.
الوجود الصامت هو أعمق صلاة.
(العقل):
لكن أحياناً أرى الآخرين يبدون أقوى، أكثر توازناً.
وأشعر أني أتأخر في هذه الرحلة.
(الروح):
لا أحد يتأخر في طريق لم يُرسم له.
رحلتك تخصك وحدك، بإيقاعك، بخيباتك، بانبعاثك.
الوعي ليس سباقاً، بل عودة بطيئة نحو الأصل.
أحياناً تحتاج أن تمشي، وأحياناً أن تتوقف لتسمع خفقك.
تذكّر: من يقف لا يتراجع، بل يتهيأ للخطوة التالية بثبات أعمق.
العقل (بصوت أهدأ):
هل تقصدين أن الألم لا يجب أن يُلغى، بل يجب يُفهَم.
أن الغيرة، الخذلان، التعب.. كلها ليست أخطاء، بل لغات تحتاج من يفك رموزها.
(الروح):
بالضبط.
الوعي ليس رفض المشاعر، بل الإنصات لرسائلها.
كل شعورٍ ضبابي هو دعوة للوضوح، وكل ألم هو باب نحو اتساع جديد.
حين تفهم أن الخذلان لا يقصدك، ولا يعني أنك لا تستحق.
إنما هو لحظة انكشاف، يسحب منك وهماً كنت متعلّقاً به، ويرجعك لشيء أنقى فيك: صدقك مع نفسك.
وأن الحزن لا يعاقبك، بل يلين قلبك،
تصير التجارب معلمين، لا خصوماً.
العقل (بابتسامة خفيفة):
ربما هذا ما تعنيه بعبارة “الرحلة تبدأ من الداخل.”
(الروح):
نعم.. لأنها في جوهرها رحلة عودة، لا ذهاب.
العودة إلى ذاك الجزء الذي لم يتوقف عن حبك، حتى حين كرهت نفسك.
حين تصل إلى هناك، ستعرف أن الوعي ليس فكرة، بل حضن.
(العقل):
وماذا بعد الفهم؟ ما الخطوة التالية؟
(الروح):
الخطوة التالية بسيطة:
أن تعيش اللحظة التالية بصدق.
أن تتعامل مع مشاعرك كأطفالك — تستمع إليهم، لا توبخهم.
أن تختار الحب، لا لأنك تجاوزت الألم، بل لأنك فهمت أنه الطريق الوحيد للخروج منه.
العقل (صوته يخفت):
أشعر أني أقترب.. لا من النهاية، بل من نفسي.
الروح (بابتسامة دافئة):
وهذا هو اللقاء الأول..
حين لا تسعى لتغيير ما فيك، بل لتفهمه،
وحين تفهم، يتغير كل شيء من تلقاء نفسه.
دمتم بوعي
بقلم: مازن حسن

















Discussion about this post