(العقل):
الغضبُ يُرهقني يا روحُ.
أشعر به كبركانٍ يُهدِّدُ كلَّ ما حولي.
أحيانًا أكتمه فأختنقُ في صدري، وأحيانًا ينفجر بلا وعيٍ فيؤذيني قبل أن يؤذي أحدًا.
لا أعلم أيُّ نسخةٍ أنا — المكبوت أم الغاضب؟
وماذا يُعرَّف الغضبُ أصلًا؟ هل هو ضعفٌ؟ أم دفاعٌ؟ أم نداءٌ خفيٌّ؟
(الروح):
الغضبُ يا عقلُ لم يأتِ ليهدم، بل ليحمي.
هو أوّلُ صوتٍ ينطقُ بالكرامة،
وأصدقُ المشاعرِ حين يتعلق الأمرُ بالحدود.
لكن إذا أُهمِلَ، تحوّل من حارسٍ إلى سجين.
النسخةُ المكبوتةُ منه تتحوّل إلى ألمٍ مُزمِن،
والمنفجرةُ منه تتحوّل إلى عنف.
أما الغضبُ الواعيُ، فهو نارٌ مقدّسة —
تحرقُ الزيفَ فحسب، وتُنيرُ الطريقَ نحو الحقيقة.
(العقل):
لكنّ الغضبَ يُخيفني.
كلَّما ظهرَ فيّ شعرتُ أنني سأفقدُ السيطرة،
كأنه شيطانٌ داخليٌّ.
(الروح):
الغضبُ ليس شيطانًا، بل ملاكٌ فقدَ لغتَه.
يأتي ليقول: «هنا قد تُجاوزت حدودي».
ولكن لأننا لم نتعلّم كيف نَصغي إلى صوته بهدوءٍ،
صرخ حتى بلغ حدّ الجنون.
عندَ مجيءِ الغضبِ، لا تطرُدْه ولا تُبرِّره.
اسأله: «مِمَّ تحاول أن تحميني؟»
غالبًا ما سيهمس: «من شعورِ الإهانة… من الظلم… من التكرار.»
(العقل):
هل يعني ذلك أن الغضبَ ليس ضدَّ الحب؟
(الروح):
أبدًا.
الغضبُ ابنُ الحبِ، لكنه الحبُ المجروح.
يغضبُ لأن شيئًا ثمينًا في داخلك مهدَّدٌ أو مُهمَل.
حين تحبُّ نفسك بعمقٍ، يصبح غضبُك هادئًا،
صريحًا، واضحًا، بلا تدميرٍ ولا استجداء.
الغضبُ الواعيُ لا يرفعُ الصوتَ، بل يرفعُ القيمةَ.
يقول: «أَستحقُّ أن أُسمَع».
يقولها بنبرةِ احترامٍ لا انتقامٍ.
(العقل):
أحيانًا أغضبُ من نفسي أكثرَ من الآخرين.
أغضبُ لأنني سمحتُ، لأنني صمتُّ، لأنني لم أكن شجاعًا كافياً.
(الروح):
هذا الغضبُ أَثمنُ أنواعِ الغضب — لو أصغيتَ إليه جيدًا.
هو لا يريدُ أن يعاقبك، بل أن يوقظك.
يقولُ لك: «الآن تعلَّمتَ. لا تعُد حيثَ آلمتَ نفسك».
لا تحوِّلْ غضبَك نحوَ نفسك إلى جلدٍ،
بل اجعله عهدًا جديدًا مع وعيك: أن تكون صادقًا في المرةِ القادمة.
(العقل):
لكنَّ الناسَ تخافُ من غضبي، وحتى أنا أخافُ من صورتي فيه.
كيف أعبّر عنه بوعيٍ؟
(الروح):
ابدأ بإعطائه لغةً.
قبل أن تتكلّم مع أحدٍ، اكتبْ ما تشعرُ به دونَ ترشيحٍ.
اخرجِ الكلماتِ الغامضة — «أنا مجروح، أنا محبط، أشعر أنني غير مرئي».
الكتابة تفكُّ شيفرةَ النار.
ثم تنفَّس، ودع الجسدَ يُفرِّغُ ما حمله —
مشيٌ طويل، صرخةٌ في مكانٍ آمن، تنهُّدٌ عميق…
الغضبُ يحتاجُ ممرًّا لا سجنًا.
وعندما تهدأُ الموجةُ، تحدّث بصدقٍ دون اتهام:
«شعرتُ بـ… حين حدثَ…».
بهذه البساطةِ، يصبحُ الغضبُ جسرًا للفهم بدلَ أن يكونَ حاجزًا.
(العقل) (بخفضِ الصوت):
كلَّ مرةٍ أغضبُ فيها أشعر بعدها بالندم، كأني خنتُ نفسي.
(الروح):
لأنك لم تكن حاضرًا حين انفجرتَ،
بل كنت طفلًا يصرخُ من زمنٍ قديم.
الغضبُ أحيانًا لا يتعلقُ بالموقفِ الحالي،
بل بالماضي الذي ما يزالُ يطلبُ عدالةً.
لهذا فالوعيُ ضروري —
حتى لا تخلطَ بين من جرحك اليومَ،
ومن تركك بلا صوتٍ قبلَ سنواتٍ.
(العقل):
هل يعني ذلك أن الغضب مرآةُ الجرح؟
(الروح):
بالضبط.
كلُّ مرةٍ تغضبُ فيها، هناك جرحٌ يقول: «أنا ما زلتُ هنا».
والشفاءُ لا يأتي بالصمتِ، بل بالاستماعِ إليه حتى النهاية.
وحينَ تصغي، يتحوّلُ الغضبُ من نارٍ تحرقك
إلى دفءٍ يحميك.
(العقل):
ومتى أَعْلَمُ أن غضبي قد صار واعيًا؟
(الروح):
حين لا تسعى لإثباتِ شيءٍ، بل لحمايةِ حقيقتك.
حين تتكلمُ بنبرةٍ واضحةٍ لا مرتجفةٍ.
حين لا تحتاجُ إلى إهانةٍ لتشعرَ بالقوة.
وحين تعلمُ أن الكرامةَ لا تحتاجُ ضجيجًا لتُسمَع.
(العقل) (بصوتٍ ساكن):
ربما الغضبُ لم يكن المشكلة،
المشكلة أني لم أستمع لرسالته في الوقت المناسب.
(الروح) (بحنان):
وهذه هي الحكمةُ كلُّها.
الغضبُ لا يطلبُ منك أن تكونَ لطيفًا،
بل أن تكونَ حقيقيًا.
وحين تصبحُ حقيقيًا،
يهدأُ كلُّ ما فيك تلقائيًا.
(العقل):
يعني في النهاية، الغضبُ ما هو إلا شكلٌ من أشكالِ الحب…
لكنه متنكرٌ بلغةِ النار.
(الروح):
تمامًا.
وعندما تتعلّمُ ترجمةَ النارِ إلى نورٍ،
تصبحُ سيدَ مشاعرك لا سجينَها.
دمتم بوعي

















Discussion about this post