كتب رياض الفرطوسي
لا تولد الدول من صخب الشعارات، ولا تُبنى من رغوة الخطابات، بل من ذلك النفس العميق الذي يمرّ بين الناس فلا يراه أحد، لكنه يغيّر طعم الحياة ببطءٍ ثابت. الدولة، في جوهرها، كائن حيّ؛ تتعب، وتنهض، وتبحث عن من يسمع خفقتها حين يثقل الهواء. ولهذا، فإن امتحان اختيار رمز الدولة ليس شأناً إدارياً، بل لحظة مفصلية يتقرر فيها شكل المستقبل، وصورة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين ما كنّا عليه من قبل… وما نريد أن نصبح عليه.
المجتمعات لا تتبدّل بقرار، ولا تصحو بوجهٍ جديد لأن التقويم تغيّر. البشر يسيرون ببطء القوافل، والعادات تتجذّر كما تتجذّر أشجار السدر: تمتد في الأعماق حتى لو تغيّر السطح. التغيير الحقيقي نهرٌ تحت الأرض؛ خافت، لكنه يحرّك التربة من الداخل، ويعيد تشكيل الذاكرة، ويبدّل معنى الأمن، ويغيّر نظرة الناس إلى الدولة حين يشعرون بأن العدالة لم تعد غريبة في بيتها.
وفي بلدٍ كالعراق، حيث تختلط الأزمنة كطبقاتٍ من الطين والرماد والسرديات التي لا تموت، تصبح القيادة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون منصباً . نحن لا نبحث عن رئيس وزراء يضيف نفسه إلى قائمة الوجوه العابرة، بل عن رجلٍ يرى الدولة كأمانة، لا كغنيمة. رجلٍ يفهم أن الشرعية تُكتسب من السلوك، وأن الهيبة وليدة الحضور لا الضجيج، وأن السلطة التي لا تُمارس بتواضع تتحوّل إلى وهمٍ ينهار عند أول اختبار.
نحتاج قائداً يعرف كيف يربط خيط الاقتصاد بخيط الأمن، وكيف يجعل التعليم عموداً لا زينة، وكيف يسمع صوت المجتمع لا صدى الخطابات. رجلًا حين يجلس في مكتبه يشعر الناس أن الدولة استعادت اتزانها، وأن الكرسي لم يعد مقعداً بل موقعاً للمسؤولية الثقيلة التي لا يحملها إلا قلبٌ مستقيم.
وهنا يقف العلم شاهداً على غيابٍ طويل. فقد ظلّ الخبراء في العراق يشبهون ضيوفاً يقفون عند العتبة: يُسأل عنهم عند الأزمات، ويُنسَون في الأوقات العادية. لكن الدولة التي لا تضع علمها في المقدمة… تشبه سفينة تمضي بلا ربّان، تتبع ارتجال الأمواج؛ فلا تعرف إن كانت تقترب من اليابسة أو من العاصفة. المختبر ليس امتيازاً أكاديمياً، بل أساس اقتصادٍ جديد، والجامعة ليست بنايةً بل عقل الدولة حين تضلّ الطريق.
إن امتحان اختيار رمز الدولة هو، في العمق، امتحانٌ لوعي المجتمع نفسه:
هل نبحث عن وجهٍ جديد نعلّقه على جدار، أم عن رؤية جديدة تُصلح العلاقة بين الحاكم والدولة، وبين الدولة وشعبها؟
هل نريد من يجمّل الواقع، أم من يواجهه بلا خوف؟
من يهرب من الحقيقة، أم من يحولها إلى حجر كريم يحتاج إلى صقلٍ طويل؟
العراق لا ينهض بالوعود، ولا بالبيانات، ولا بمديح الأقربين. ينهض حين يجد القائد الذي يرى الوطن كما هو: نهراً يحتاج ضفتين آمنتين، وحجراً يحتاج صبر الصائغ، وشعباً يعرف الألم لكنه لا يزال يحتفظ بحلمٍ يمشي في الليل على ضوء نفسه.
وحين نختار ذلك الرجل… ستتنفّس الدولة كما لو أنها استعادت رئتيها.
وستعرف الناس أن القيادة ليست تاجاً، بل مسؤولية تُحمَل بالقلب… قبل أن تُمارَس باليد.


















Discussion about this post