كتب رياض الفرطوسي
في فضاءٍ لم تعد تحكمه الخرائط، ولا تقرره الحدود المرسومة على الأرض، تتشكل اليوم دولة جديدة، ليست من حجارة أو تراب، بل من بيانات وخوارزميات. إنها ( الدولة الرقمية )، كيان لا يعترف بالحدود التقليدية، ولا يخضع للمعايير القديمة للسيادة، لكنه يمتلك نفوذاً يتجاوز قدرات كثير من الحكومات، ويعيد رسم موازين القوة في عالمنا المعاصر.
هنا، القوة لم تعد تُقاس بالجيش أو الاقتصاد وحده، بل بالقدرة على السيطرة على المعلومات، وفهم السلوك البشري بدقة، وإعادة توجيه القرارات الجماعية. شركات مثل ميتا أصبحت أقرب إلى إمبراطورية سياسية، تملك مليارات ( المواطنين الرقميين ) الذين يثقون بمنصاتها، ويتحركون وفق قواعدها غير المعلنة، دون أن يخطووا خطوة واحدة في أراضيها الافتراضية. البيانات التي تجمعها عنهم تمنحها سلطة على الرأي العام والتوجهات الاجتماعية والسياسية، كما لو كانت حكومة حقيقية، لكنها بلا حدود، بلا جيش، بلا دبلوماسية تقليدية.
أمازون، في حينه، صنعت دولة اقتصادية رقمية تتحكم بسلاسل الإمداد، وتعيد تشكيل الأسواق العالمية عبر منصتها. كل عملية شراء، كل تعامل مالي، وحتى استخدام العملات الرقمية، يعكس سيطرتها على الاقتصاد الافتراضي، ويمثل وسيلة ممارسة نفوذ يعيد تعريف مفهوم ( القوة الاقتصادية ). هنا، الشركات لم تعد مجرد فاعلين تجاريين، بل لاعبين قادرين على تغيير قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية.
وعلى مستوى المعرفة، تهيمن جوجل ومايكروسوفت على الذكاء الاصطناعي، وتستثمران بيانات ضخمة لتحليل الاتجاهات، والتنبؤ بالقرارات، والتأثير في مجريات السياسة والاقتصاد. لقد أصبح لديهما القدرة على رسم ملامح الواقع المستقبلي، بطريقة تتجاوز حتى تأثير المؤسسات الحكومية التقليدية، ما يجعل العالم الرقمي ساحة قوة متفردة، بعيداً عن أي سيطرة تقليدية.
وفي قلب هذا الصراع على النفوذ، تظهر التوترات القانونية والسياسية. رفض هذه الشركات للالتزام الكامل بلوائح حماية البيانات، أو الاكتفاء بالحد الأدنى منها، ليس مجرد تحدٍ للقوانين، بل إعلان صريح عن ولادة قوانين رقمية موازية، تسعى إلى فرض نظامها الخاص على مستخدميها وعلى العالم كله.
إنها لحظة تاريخية، يعيد فيها العالم تعريف السيادة والقوة: لم يعد الحديث عن دولة تقليدية تحدد مصائرها وحدها، بل عن شبكة من القوى الرقمية، تتحرك بحرية، وتؤثر في الاقتصاد والمجتمع والسياسة، وتضع تحدياً جديداً أمام الدول، لتقرر ما إذا كانت ستتعاون، أو تتصارع، أو مجرد مراقبة أمام هذا التدفق الهائل من النفوذ الرقمي.
صعود الدول الرقمية ليس مجرد تحول تقني، بل هو تحول في فهم السلطة نفسها، حيث القوة الحقيقية اليوم ليست في الأرض، بل في المعلومات، والسيطرة على الخوارزميات، وقدرة الكيانات الرقمية على صياغة المستقبل، وإعادة كتابة قواعد اللعبة العالمية، لتفتح فصلًا جديداً في تاريخ السيادة، فصلًا لا يعرف الحدود التقليدية.


















Discussion about this post