كتب رياض الفرطوسي
المجال العام فضاء واسع، حيث تتقاطع طرق البشر، كلٌ يحمل عينيه المميزتين، ورؤيته الخاصة للعالم. هناك من يسعى وراء السلطة ليعيد تشكيل الواقع، ومن يغوص في أعماق الفكر بحثاً عن بصيرة تُضيء المستقبل، ومن يرفع شعلة قضية يؤمن بها، يناضل ويصرّ حتى يتحقق لها أثر ملموس. هؤلاء ثلاثة، وجوه مختلفة لنفس المدينة الحية: السياسي، والمثقف، والنشط. كلٌ منهم له لغته، أداة عمله، وطريقته في التأثير.
السياسي يمشي في هذا الفضاء كما لو كان على خشبة مسرح كبيرة، كل خطوة محسوبة، كل حركة لها وزنها. السلطة ليست عنده مجرد منصب، بل وسيلة لصياغة الواقع وتوزيع الفرص، ولحماية مصالحه ومصالح من يؤيدونه. هو يراقب من حوله، يدرس الحلقات التي تتحرك بها القوى، ويعرف أن كل دعم له ثمنه، سواء من الناس العاديين الذين يسعون خلفه، أو من الأصوات النافذة التي تصنع الفارق. السياسة عنده فن التعامل مع البشر والظروف، معرفة من يستطيع، ومن يعيق، ومن يمكن أن يكون سنداً حقيقياً أو عبئاً مؤقتاً .
المثقف، في المقابل، يختار أن يتعامل مع العالم من زاوية مختلفة. هو لا يسعى إلى السلطة، بل إلى وضوح الرؤى، إلى فهم العلاقات الخفية بين الأحداث، إلى نسج أفكار قد لا ترى النور الفوري لكنها تغيّر الطريقة التي نفكر بها. المثقف يقرأ التاريخ، يغوص في الفلسفة، ويراقب الزمن الطويل، أحياناً بعين سموّ عن الواقع الملموس. هو يحلم ويحلل، يصوغ توقعاته بعناية، ويقيس الفجوة بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، دون أن يغفل أن الأرض التي يقف عليها صلبة، وأن السياسة ليست مجرد فكرة بل أفعال تتخذ يومياً.
أما الناشط ، فهو قلب الحراك، الشعلة التي لا تنطفئ. قضية واحدة تحركه، تدفعه إلى النضال، تجعله يقف بلا كلل أو ملل، يرفع صوته دفاعاً عن الحق أو العدالة أو البيئة أو التراث. بعض النشطاء يظلون على حدود قضاياهم مدى الحياة، يحافظون على جذوة التغيير مشتعلة، بينما يجد آخرون طريقهم إلى السياسة، يحوّلون شغفهم إلى أفعال ذات تأثير أوسع، متجاوزين حدود الحلم إلى الواقع.
مجتمع متوازن يحتاج إلى هذا المزيج: السياسي ليصنع القرار ويعيد ترتيب الواقع، المثقف ليضيء الطريق ويرسخ الفهم، والناشط ليبقي الشعلة حيّة، يذكر الجميع أن القضية لها قيمة وأن الحرية تتحقق عبر العمل. حين تختلط الأدوار دون ترتيب، أو يحاول كل منهم اقتحام مجال الآخر بلا استعداد، يتشوش المشهد، وتضعف الفاعلية. إعادة تنظيم الهياكل وتحديد الأدوار هو ما يضمن أن يظل المجال العام حيّاً ، نابضاً ، قادراً على مواجهة التعقيد والتحديات دون فقدان روحه.
في النهاية، السلطة ليست مجرد قوة تُمارس، الفكر ليس مجرد تأملات تُحلق في الهواء، والشغف ليس مجرد ضجة عابرة. كل منهم لغة، كل منهم نبض، وكل منهم حجر أساس في بناء مجتمع قادر على مواجهة المستقبل بثقة، وحكمة، وحرية.


















Discussion about this post