د. عدنان منصور*
على الرغم من صعود قوى وتكتلات دولية بارزة ومؤثرة على الساحة العالمية، كالاتحاد الأوروبي، والهند، وروسيا، والبرازيل، ومنظمة شنغهاي وبريكس وغيرها، لا تزال الولايات المتحدة تهيمن بقدراتها الهائلة.
وتستفرد نسبياً بالزعامة العالمية، وهذا مردّه إلى امتلاك أميركا منظومة من القوى الكاملة الضخمة، وأبرزها القوة العسكرية، والانتشار العسكري الأميركي على مساحة قارات العالم، من خلال القواعد العسكرية التي يزيد عددها عن 750 قاعدة، والمنتشرة في مناطق أوروبا، وآسيا،
وأميركا، وأفريقيا، وبالذات في دول الخليج العربية.
إلى جانب القواعد العسكرية، يبرز التفوق النوعي للولايات المتحدة في التكنولوجيا العسكرية، والفضائية، بالإضافة إلى امتلاكها منظومة ردع شاملة، تقليدية، ونووية، وسيبرانية. هذا التفوّق تقرّه كلّ من الصين، وروسيا وغيرها، ولا تتجاهله، خاصة في مجالات الفضاء،
والتكنولوجيا المتقدمة، والمعرفة، والذكاء الاصطناعي، والأسلحة الدقيقة، وأيضاً قدرة الجيش الأميركي على إدارة الحروب في المناطق البعيدة جداً، وليس فقط في نطاق الدفاع الإقليمي.
هذه القدرات العسكرية لأميركا، تغذيها أكبر موازنة دفاع في العالم، أقرّها الكونغرس الأميركي لعام 2026، وتبلغ 901 مليار دولار. في المقابل نجد أنّ دول الاتحاد الأوروبي أو بريكس أو شنغهاي، لا زالت قوى إقليمية من حيث الانتشار العسكري وليست قوى عالمية! أما على الصعيد الاقتصادي، فإنّ واشنطن تهيمن على النظام المالي العالمي، من خلال الدولار كعملة عالمية، إذ أنّ أكثر من 80% من التجارة العالمية، تسعّر بالدولار، ومعظم الاحتياطات النقدية العالمية موجودة بالدولار، بالإضافة إلى قدرة أميركا على فرض عقوبات شرسة ضدّ دول عبر النظام المالي، نظراً لنفوذها الكبير داخل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، نفوذ نجم عن صياغة الولايات المتحدة، قواعد الاقتصاد والنقد العالمي منذ مؤتمر بروتون وودز (Bretton Woods) عام 1944، الذي أنشأ صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، واللذين كانا في خدمة مصالحها في الدرجة الأولى.
أمام هيمنة الولايات المتحدة، ونفوذها العالمي الواسع، تحاول القوى الإقليمية الكبرى، والمنظمات الدولية كـ بريكس كسرها، لكن واقع بريكس الحالي، يجعلها من الصعب على المدى القريب، زحزحة أميركا عن مكانتها، إذ أنّ منظمة بريكس لم تتوصل حتى الآن إلى اعتماد عملة بديلة لها، موحدة ومستقرة.
كما أنّ اقتصادات دولها متفاوتة، ومصالحها متعارضة في أكثر من مجال. في حين أنّ الدولار عملة احتياط، بها تسعّر التجارة العالمية، ما يجعل واشنطن تتحكم بالبنية التحتية المالية العالمية، لجهة العقوبات التي تفرضها على الدول، أو التحويلات التي تجريها.
أمام هذا الواقع، تريد دول بريكس الحدّ من هيمنة الدولار، وذلك للحفاظ على استقرار عملتها الوطنية مقابل الدولار، مما يؤدي إلى إضعاف قوة العقوبات الأميركية المفروضة على دولها، وأيضاً إلى انخفاض في قيمة الدولار. إذا ما اعتمدت دول بريكس عملة جديدة في ما بينها، فسيحدّ ذلك من اعتمادها على الدولار واليورو، وهذا ما أشار إليه الرئيس الروسي بوتين في القمة الـ 14 للبريكس، من أن دول بريكس تخطط لإصدار “عملة احتياط عالمية جديدة”.
لا شك في أنّ الولايات المتحدة لا يمكن لها أن تغضّ الطرف عن منظمة بريكس، أو شنغهاي، فمن أجل مواجهتها، والحدّ من اندفاعها، وتطويقها، تعمل واشنطن على تعزيز علاقاتها مع دول جنوب القارة، حتى لا تشكل بريكس مستقبلاً تهديداً جدياً لمصالحها الاقتصادية والمالية، والتجارية الحيوية والاستراتيجية في العالم.
إنّ العديد من الخبراء الاقتصاديين والماليين الأميركيين، يستبعدون أن تتخلص دول بريكس من هيمنة الدولار، واتخاذ قرارات موحّدة بينها، بسبب غياب الموقف السياسي الموحد، وبسبب حجم الفساد الذي ينخر دوله، وهذان السببان يحدّان من اندفاع بريكس وفعاليتها. في هذا المجال، يرى مسؤولون في الأمن القومي الأميركي وباحثون سياسيون، أنّ بريكس لن تتحوّل الى منافس جيو ـ سياسي للولايات المتحدة، أو لأيّ بلد آخر، لأنّ المنظمة تضمّ في صفوفها دولاً متنوعة، تختلف في ما بينها حول أمور وقضايا حساسة، وإنْ التقت واتفقت على مواضيع محددة.
إذا كانت الصين تجد في بريكس أهمية كبيرة لها، ومجالاً حيوياً للتصدّي لهيمنة أميركا ونفوذها الكبير، فإنّ المتابعين للشأن الصيني، يرون أنّ بريكس ستساعد على توسيع النفوذ الصيني في أكثر من قارة، لا سيما في آسيا،
وأفريقيا وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط، بسبب المنافسة المتصاعدة مع الولايات المتحدة.
رغم صعود تكتلات دولية، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بقدرة فريدة على قيادة النظام الدولي، واستمرار زعامتها العالمية. هذه القدرة تعود إلى تفوق بنيوي شامل، يجمع بين القوة العسكرية والاقتصادية والمالية، والتكنولوجية، بالإضافة الى شبكة تحالفات عالمية واسعة، وقوة ناعمة مؤثرة، فيما منظمة بريكس تعبّر عن نزعة رفض للهيمنة الأميركية، أكثر مما تشكل بديلاً متكاملاً عنها، بسبب التباينات داخلها، وغياب القرار الواحد.
إذا كان النظام الدولي قد شهد أحادية قطبية متينة تمثلت بالولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 ومعه المنظومة الشيوعية، إلا أنه انتقل إلى تعددية قطبية غير متوازنة، إذ أنّ أميركا، القطب الأوحد نسبياً، لم تعد دون منازع، وإنْ كانت لا تزال القطب الأكثر نفوذاً وهيمنة، وتأثيراً، وتحكماً في العالم. لأنّ التكتلات الصاعدة تعزز نفوذها الإقليمي، دون أن تنتج نظاماً عالمياً بديلاً ومتماسكاً. هذا ما يجعل الولايات المتحدة تستمرّ في زعامتها وقيادتها العالمية، وإنْ تراجعت هذه الزعامة نتيجة متغيّرات دولية، بدأت تثير قلق أميركا، والتي دفعتها إلى إصدار وثيقة عام 2025 تحدّد استراتيجيّة أمنها القومي، وهي تواجه مرحلة دولية شديدة التعقيد، بعد أن تصاعدت فيها حدة المنافسة بين القوى الكبرى. هنا تشدّد الوثيقة على التفوق الأميركي الذي يستلزم تحديث أدوات القوة الشاملة للدولة، لأنّ العالم يشهد تحوّلات جذرية تعيد تشكيل بنية النظام الدولي، وتبرز من خلال عودة التنافس بين القوى الكبرى، إذ تعتبر الصين المنافس الاستراتيجي الشامل للولايات المتحدة، نظراً إلى قدراتها الهائلة، الاقتصادية، والتكنولوجية، والعسكرية، وطموحاتها لإعادة تشكيل النظام الدولي.
من جهة أخرى تعتبر الوثيقة أنّ روسيا تشكل تهديداً حاداً ومباشراً للاستقرار الأوروبيّ بسبب سياساتها التوسعية في استخدام القوة العسكرية.
إذا كانت وثيقة الأمن القومي الأميركي تعيد ترتيب أولويات واشنطن، وتخفض من أهمية الشرق الأوسط، إلا أنها تؤكد أهمية أمن “إسرائيل”، وامن الطاقة، واحتواء النفوذ الإيراني. والاستمرار في سياسة الضغط على حلفاء إيران (حزب الله)، وفرض المزيد من العقوبات على شبكاته ووسطائه!
المواجهة السياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة والقوى الكبرى الصاعدة حتميّة، وما الصين إلا في مقدمة هذه القوى، حيث الأمر متروك لها، وهي القادرة قبل غيرها على إزاحة الامبراطورية العظمى عن أحادية زعامتها العالمية، وإنْ استغرق الأمر وقتاً من الزمن. الزعيم الصيني شي جين بينغ، يطمح الى إيصال الصين للمرتبة العالمية الأولى وهي تحتفل عام 2049 بذكرى مرور مئة عام على تأسيس جمهورية الصين الشعبية. هدف لن يمنع الصين من تحقيقه، بعد الإنجازات الباهرة التي تحققها منذ 45 عاماً، وهي تخوض مع الولايات المتحدة سباقاً ماراتونياً للإمساك بالزعامة العالمية!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

















Discussion about this post