كتب رياض الفرطوسي
لا يشبه سباق القوى الكبرى أي سباق عرفه التاريخ من قبل. لا صافرة بداية فيه، ولا مدرجات تصفق، ولا خط نهاية يُعلن الفائز. إنه سباق صامت، طويل، تُدار مراحله في العقول قبل الميادين، وفي التخطيط قبل الصدام. من يظن أن التنافس الدولي اليوم يدور حول مكاسب آنية أو أزمات عابرة، يخطئ قراءة المشهد؛ فالقوى العظمى تركض نحو المستقبل، لا لأن الحاضر يخذلها، بل لأنها تعرف أن من يصل إلى الغد أولًا، يفرض إيقاع العالم كله.
الحاضر، في هذا السباق، ليس أكثر من محطة مؤقتة. تُقاس فيه السرعات، وتُختبر فيه الأدوات، لكن الرهان الحقيقي مؤجل. لذلك لا تُحسب القوة بما تملكه الدولة الآن فقط، بل بقدرتها على تحويل الزمن نفسه إلى حليف. من يفكر بعقلية اللحظة يُستنزف، ومن يفكر بعقلية العقود يتقدم بهدوء، حتى لو بدا بطيئاً في أعين الآخرين.
هذا السباق لا يسير في مسار واحد. تتداخل فيه الجغرافيا بالاقتصاد، وتتحول التكنولوجيا إلى سيادة، وتصبح الطاقة أداة نفوذ، والمعلومة سلاحاً ناعماً لا يقل فتكاً عن الجيوش. حتى البيئة والمناخ لم يعودا شأناً أخلاقياً أو إنسانياً فقط، بل أوراق ضغط في لعبة النفوذ الكبرى. كل شيء صار قابلًا للتسييس، وكل مجال مرشح لأن يكون ساحة تنافس.
في قلب هذا المشهد تبرز الصين، لا كدولة تبحث عن موقع، بل كقوة تخوض السباق بمنطق مختلف. بكين لا تركض خلف الآخرين، بل تختار مساراً خاصاً بها، وتعيد رسم الطريق أثناء السير. أدركت مبكراً أن التفوق في القرن الحادي والعشرين لا يتحقق بالصدام المباشر وحده، بل بالقدرة على بناء البنية التحتية التي يتحرك فوقها العالم بأسره.
لهذا لم تحصر الصين طموحها في البر، بل وسّعته إلى حيث لا يلتفت كثيرون. أعماق البحار، حيث تختبئ موارد ستحدد شكل الصناعات القادمة. المناطق القطبية، حيث تختصر الطرق وتُختزن الثروات تحت الجليد. الفضاء، حيث تُعاد صياغة مفاهيم التفوق والردع. هذه التحركات لا تُقرأ كمغامرات علمية، بل كاستثمار طويل الأمد في جغرافيا المستقبل.
في المقابل، ما زالت الولايات المتحدة تمتلك قوة هائلة، لكنها تواجه خصماً لا يشبه خصومها التقليديين. خصم لا يستدرجها إلى مواجهة مباشرة، ولا يرفع شعارات التحدي الصاخبة، بل يعمل بصمت، ويبني البدائل، ويطرح نفسه شريكاً لا وصياً . صراع الإرادات هنا لا يُقاس بعدد القواعد العسكرية، بل بمدى القدرة على صياغة القواعد نفسها.
المعركة الحقيقية تدور حول من يضع المعايير: معايير التكنولوجيا، ومعايير التجارة، ومعايير ما هو مقبول أو مرفوض في النظام الدولي. من ينجح في ذلك لا يحتاج إلى فرض إرادته بالقوة، لأن العالم سيتحرك تلقائياً داخل الإطار الذي رسمه.
الصين لا تسعى إلى هدم النظام القائم بضربة واحدة، بل إلى تجاوزه تدريجياً. تبني مؤسسات موازية، وتنسج تحالفات مرنة، وتقدم نموذجاً يبدو عملياً ومغرياً لكثيرين. هكذا يتغير ميزان القوة دون إعلان حرب، ويُعاد تشكيل العالم بينما ينشغل البعض بإدارة أزمات اليوم.
في سباق القوى الكبرى، لا يفوز الأسرع اندفاعاً، بل الأقدر على الصبر. لا ينتصر الأعلى صوتاً، بل الأعمق رؤية. المستقبل لا يُنتزع قسراً، بل يُصنع ببطء، ومن يملك القدرة على انتظاره والعمل من أجله، يصل إليه قبل غيره… ويترك الآخرين يلهثون خلف أثره.

















Discussion about this post