الحركة السردية.. قصة” مأتم “أنموذجاً
للأديبة التونسية الأستاذة فتحية دبش
_________________
عندما تتكلم روح ثائرة في موقف حزن فما هي التبعات؟ وماهي النقاط والركائز؟
★الروح هنا “امرأة حرة عاشقة”
★والموقف هو وفاة الحبيب والزوج المختلف عن أقرانه شكلاً ومضموناً، العاشق المجاهر، والمتحرر الواثق، لكن المغامر الذي لم يحسب حساباً لمغامراته حتى انتهت بثورتها عليه…
هي امرأة حرة في مجتمع ضيق، يجعل النسوة في مرتبة ثانية، لايساويها بالرجل حتى في فجيعة الموت وأحقية البكاء والعزاء وحضور المراسم…
فمن أقرب للميت من زوجته وحبيبته!،
منطقياً هي الخاسر الأكبر، فمن سيكون الأصدق في الحزن!
★الرسم الكاريكاتوري المشهدي للحدث :
_____________________________
مأتم فيه ميت وعدة رجال من “بلاستيك” لايتأثرون ولايحزنون، ينتظرون النفقة ويقومون بالواجب الموروث في مثل هذه الحالات مجتمعياً
من خلفهم امرأة حرة عاشقة حزينة، ارتدت قشرة تواري بها عورة مجتمع يجعلها ثانياً في الأهمية والأولوية، ترتدي جلبابا فضفاضاً وحجاباً “القشرة” لتواري به حريتها وأنفتها ومحبتها وثباتها داخلاً”بنطال جينز وشعر ثائر”
ومن ثم وصف ملابس المعشوق الزوج المتوفي عندما كان شاباً أغواها بتحرره وشجاعته، وأغوته بثورتها واختلافها وأنفتها على القيد المجتمعي، قميصه وبنطاله وحركته وإقدامه، ومحبته وشجاعته ومغامرته التي انتهت بمصرعه…
قالت”كان قميصه ذو الخطوط المستقيمة قد استرعى انتباهي، لونه واحد مع اختلاف طفيف بين الخط والآخر، مكوي وخط واحد وحيد من أعلى الكتف وحتى المعصم وبعناية فائقة كان بنطلونه مرتباً عليه كأنه عارض أزياء من شمع”
وهذه المشهدية الوصفية أفادت في رسم الخط النفسي للبطل فقط عن طريق وصف ملابسه، خطوط طولية بلون واحد “تفيد الوضوح في الشخصية مع الثبات والثقة، الكوي دليل النظام، الرتابة وكأنه عارض أزياء دليل على الجاذبية وهذا الوصف العبقري أفاد في تبرير وإظهار أنموذج البطل العاشق الثائر الحر العنيد الواضح…
علاقة الداخل بالخارج، الوهم بالحقيقة الممنوع والمسموح
كان مسالماً حنوناً واثقاً ونبيلاً “كانت تتمسح به كالقطط”ويتابع نجاحاتها ويبتسم دائماً…
★الحركة السردية
_____________
بطيئة مستفزة في البداية “التقديم”، ثم هادئة “وصف اللباس والنظرات والرجال”
ثم مهرولة وسريعة “وصف هروب الرجال والدفن”…
★ملامح الثورية الأنثوية حتى في المأتم:
______________________________
تبدت ب إلقاء الشعر عوض عن الفاتحة، حتى تثبت حريتها وتسخر من عنجهية العادات وأولوية الحزن، لم تبك فقط عاتبت …
★تصاعد الحركة وبراعة القفلة:
_________________________
بررت السفور الأخير في وداعها لزوجها، الموتى لايتحرشون في المقابر وهي صرخة أنثوية ناجحة وعبقرية…
★اللغة والأسلوب:
_______________
المتتبع لأسلوبية الأستاذة فتحية يعرف نموذجها السردي المحبب والمختلف والثائر دائما”كما في روايتها”ميلانين” وفي أقاصيصها ورسائلها،
فنموذج شخوصها يميل نحو البطولة والثورة والاختلاف، مع تمجيد العدالة والحرية والمساواة…
تُدخل الأبطال في نماذجها مع السارد حتى أحياناً لاتقدر على التفريق كقارئ بين السارد والبطل وهذه عبقرية إضافية تضاف لعبقريتها في الطرح واختيار المواضيع وإثارة الدهشة
اللغة جميلة سلسة مرت بمراحل كما أسلفنا من حيث الإيقاع بطيءومن ثم هادئ ثم متفجر ومباغت وسريع.
نهايةً القصة رائعة تحفز على قراءة المجموعة كلها
تهنئتي لتفوقك الدائم أستاذة فتحية
ريم محمد
_________________
النص
______
مأتم
قصتي ليست جميلة هذه المرة! هي فعلا قبيحة ككل السابقات. القصص الجميلة أحاول صياغتها فلا تأتيني، ربما كنت محسودة، هكذا قال لي صديق ذات مرة، و ربما كنت غير موهوبة، هكذا قلت لنفسي مرارا، وربما تستعصي علي اللغة، هكذا قالت لي كل القصص التي لم أكتب…
غير أنني مصرّة، هذا المساء ستقرؤون لي وستصفقون لي أو تبصقون علي، لكم الخيار ولي طبعا حق رد الثناء أو البصقة…
لكنني طبعا سأجبركم واحدا واحدا، واحدة واحدة، أن تقفوا ولو لنصف عشر دقيقة، أو أكثر قليلا أو أقل قليلا….
قصتي هذا المساء هي في الواقع رسالة، أكتبها لزوجي الذي عدت للتو من مراسم دفنه. في العادة لا يذهب النساء إلى المقبرة ولكنني، بما أنني تمردت على النواميس، فقد قررت أن أذهب وأن أصلي دون وضوء.
وقفت مع الواقفين، دسست جسمي في جلباب سميك، وتحت الجلباب بنطلون من الجينز الأزرق، على رأسي وضعت خمارا أسود… هكذا أمرتني عجوز القرية حالما وصل نبأ حتفه.
رشقتني النساء بنظرات اختلط فيها الإعجاب بالإدانة. استنكر الرجال وقفتي في آخر الطابور. طلبوا مني العودة إلى بيتي و البكاء في صمت إكراما لروح زوجي. لم أذعن إلى أوامرهم، و لا حتى في الوقوف في الصف الأخير بعد آخر رجل معتوه جاء يستلم نقود الصدقة، وآخر تفوح من ثيابه رائحة قيء بعد جلسة خمر ينظمونها كثيرا في عمق واحة النخيل غير البعيدة.
لماذا تفتحون أفواهكم هكذا وتحدقون بي؟
أليس زوجي و أنا أحق منهم جميعا بمصاحبته إلى مثواه الأخير؟
قضى في حادثة سيارة، كان يحب الضغط على الزناد. وعندما يكون وراء المقود لا ينثني على مداعبة جنون الموت، يراوغه ويبتسم في كل مرة لأنه انتصر وعاد سالما. هذه المرة داعبته جنية العجلات والفرامل، تمردت عليه و هزِئت من غيّه وغروره، لم تمهله حتى لحظة فيها يودعني!
لم يلتفت رجل إليّ مصافحا و لا معزيا، فقط نظراتهم كانت ترميني بالجنون، يستغفرون له من ذنبي، يتأسفون عليه و يسخطون عليّ، يتهامسون في حقد، يتمتمون أنه الشقي حُرِم من وقوف الملائكة عند رأسه بسببي…
قال بعضهم إنه لفي خسران فقد كان يسمح لي بالخروج سافرة، يقرأ الشعر عليّ في أعياد الحب ويقبلني كلما التقينا حتى بعد فراق لحظة.
رفعت رأسي بينهم، باغتهم صوتي واثقا متمكنا و صنعت صنيعا غريبا، لم أقرأ على روحه الفاتحة ولكنني قرأت مرثية طويلة.
كنت صبية في مقتبل الشباب عندما التقينا صدفة على الطريق المحفوف بالصفصاف، لم أخفض بصري ولا طرحت خماري على جيبي ولم يغض البصر ولا استغفر لرؤيتي، تقدم مني بخطى واثقة و قال :
-” أريدك حبيبة، زوجة و أما لأولادنا، هل تقبلين؟”
لم أتكلم…
كان قميصه ذو الخطوط المستقيمة قد استرعى انتباهي، لونه واحد مع اختلاف طفيف بين الخط والآخر، مكوي وخط واحد وحيد من أعلى الكتف و حتى المعصم، وبعناية فائقة كان بنطلونه مرتبا عليه كأنه عارض أزياء من شمع…
كان يناديني ب”قطتي الصغيرة” وكنت أحب التمسح به كما تفعل صغار القطط، يهدهد وجعي إن تألمت ويهتف باسمي كلما نجحت ويبتسم راضيا في جل حالاته.
مازلت ألقي مرثيتي عندما نظروا إلى بعضهم بعضا، بسرعة و كما يوارون خروفا واروه التراب و هرولوا بعيدا عني …
عند رأسه جلست، أزحت عني الغطاء الحزين، فردت شعري و ألقيت بالجلباب جانبا.
لم يطاوعني دمع ولا آهة، فقط عاتبته لرحيله المفاجئ وسألته كيف لي أن أستمر بدونه…
أعرف، إنكم جميعكم تشمئزون من سفوري في المقبرة…
لا، لا!
الموتى لا يتحرشون بي ولا يخشون الفتنة.
#فتحيةدبش
من #صمت_النواقيس ط1، القاهرة 2018