الأمل المزيف ..
د.علي أحمد جديد
لاشك بأن “اليأس خيانة” ، وأن العمل على نشر اليأس خيانة عظمى ، وثمة خيانات كثيرة تقوم على ما هو أسوأ من نشر اليأس نفسه ، ومنها إشاعة الأمل المزيف وزراعة الوهم الذي يحترف كثيرون استخدامه ، وبصورة خاصة في المجال السياسي من خلال التعمّد على مزجه بالغيبيات وبالتحليلات الغرائبية . بدءاً من الآمال التي تحترف تصنيعها نخب إعلامية وسياسية وتنشرها بين الشعوب المدفوعة بالحد الأدنى من الفطرة وبالحماسة ـ التي تُمَيِّزُ “غريزة القطيع” ـ إلى التضحية وإلى الفعل السياسي آملة بالتغيير ، وبمستقبل أفضل .
وهنا ، لا يدخل الأمل المزيف في باب الأقلام المأجورة من الصحافة الصفراء ولا بالذباب الإلكتروني الذي يتم تعميمه اليوم في وسائل التواصل الإجتماعي أو في إدّعاءات الكبرياء العقائدي أو القومي ، ولا في التميز الأخلاقي ، لأنه لا يشبهها بأي صورة من الصور . بل هو الحديث عن آمال ينشرها سياسيون وإعلاميون بين أطياف اجتماعية تخوض نضالاتها اليومية في سبيل التغيير وتقدم التضحيات انتصاراً لقضاياها العادلة .
ولكن ما يحدث عملياً هو نشر الزيف في الأوساط الشعبية المسحوقة والمتلهفة إلى المتغيرات السياسية للتخلص من الاستبداد والقمع بعد أكثر من نصف قرن من السنوات عاشها الشعب السوري في مواجهة العالم بتضحيات أكبر مما يحتمل ، وتعلّق فيها بآمال زائفة في سبيل تحسين شروط الحياة المبنية على الجهد والتضحيات التي يدفعونه إلى تقديمها وهم يستخفون به و بتضحياته ويسخرون من سذاجته .
الأمل المزيف يكون حين يصدق الشعب بأن الفرج قريب ، والكثيرون يساقون إلى السجون بأعداد أكثر من المئات بكثير ، فهذه آمال زائفة ، وتحديداً حين يتحوَّل ترويج هذه الآمال إلى نشاط سياسي وإعلامي وحيد . وإن ترويج مقولات “اقتراب الفَرَج وحتمية النصر والتمكين” ، بمعناها الغيبي المُغرِق في الغموض ، ليست مقولات سياسية ، لأن هذا ما يمكن أن تقوله زوجة سجين أو أسير للسجين أو الأسير من أجل بعث الأمل في خلاصه ، إذا تمكنت من مقابلته أو زيارته ولقائه ، كما يمكن أن يتداولها المعتقلون أنفسهم فيما بينهم .. أو يمكن أن يرددها أحدنا في عزاء شهيد ، أو مواساة مريض ، أو للتخفيف عن أهل مفقودٍ ومُختَطَف . أما حين يقولها قائد سياسي ، أو وجيه إجتماعي ، أو إعلامي يتفنّن في إشاعة التلميحات بصلته الوثيقة مع مصادر نافذة ومتنفذة ، فإنما يعني بأن ذلك لايتعدى إشاعة الأمل المزيَّف وترويجه . و”حتمية انتصار المظلوم والقصاص من الظالم” مقولة لم تعد تعني شيئاً ولا تفيد في شيء حين تكون غير متصلة بنضال واضح و قادر على إقناع الآخرين ، والأهم أن يكون ذلك القائد أو الوجيه قادراً على تصحيح نفسه ، حين ينحرف عن غاياته التي أعلنها بصيغةٍ مثاليةٍ وسامية ، والأهم أن يكون قادراً أيضاً على معاقبة خائنيه .
وقد تبدو هذه المقولات الغيبية سِمَةً سياسية عربية ولا تستثني حكومة أو مسؤولاً ، لأنها ليست متصلة بالتيارات الدينية وحدها وحسب ، بل هي منتشرة حتى في أكثر التيارات علمنة . فمقولة “حتمية انهيار النظام الرأسمالي” مثلاً ، يمكن أن تكون علمية في إطار نِقاشٍ بحثيٍّ أكاديمي . أما حين تكون مجرد تلقينات للشباب كي يخرجوا في تظاهرة سيقمعها الأمن برصاص يزهق أرواحهم ، وبإخفاء قسري غير محدد المدة ، فهي لا تختلف عن مقولات التمكين التي تُشاع في أوساط من لم تتوفر لهم ولم يوفروا شيئاً من أسباب التمكين وشروطه .
أما إذا كان المبرر والدافع لاستخدام هذه المقولات ، والتركيز عليها من السياسيين ومُرَوِّجي الآمال والأمنيات المزيفة ، فهو إنما يرتكز في تثبيته وتصديقه على مدى إيمان الشعوب وقناعتها بهذه المقولات ، أو بالأحكام العامة العادلة للجميع ، وهذا يعني أن هؤلاء لا يختلفون عن أولئك الذين يقذفون بالشباب إلى الموت ليَقتِلوا إخوانهم وشركاءهم في الوطن الواحد طمعاً بالجنة وبما فيها . بل يبدو ذلك واضحاً في التساؤل حول قدرة الجماعات المتطرِّفة ، في كل التيارات ، على التجييش والتحشيد ؟! وماذلك إلا لأن الإيمان مطلق عند أتباعهم ، ولا تتصل غاياتهم بالمجال السياسي أصلاً .
ومن سذاجة التوقعات ، حين يفرح القطيع كثيراً ويطمئن كلما أخبروا أفراده بأن ضوءاً ينبعث من آخر النفق المظلم الذي أدخلوه فيه ، ليكتشف حقيقة الواقع الذي انتقل إليه ، وهو الواقع الذي يتحوَّل فيه الفرح إلىٰ حزن عميق ، وتنقلب الطمأنينة إلى رعب ، حين يتأكد بأن الضوء المنبعث في الأفق البعيد ليسَ نور الأمل ، بل هو ذاك الضوء المُنبعث من جهنم الدنيا التي سيذهب إليها للعيشِ فيها ولتكون مثواه الأخير تحت مظلة أمل كاذب ومزيف ليس إلّا !!.