قراءة نقدية:” القصيدة واللحظة التاريخية”
القصيدة: ” في لحظة ذهول”
الشاعرة :الهام عيسى(سوريا)
الناقدة: جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية: :” القصيدة واللحظة التاريخية”
استهلت الشاعرة الهام عيسى قصيدتها بذكر الاطار الزماني لما له من أهمية في اختطاف اللحظة الحاضرة فتقول:
في لحظة ذهول تسرج اللوعة..
لقد وصفت اللحظة بلحظة ذهول لفرط المفاجأة :
– هل هي لحظة ذهول سارّة أم مؤلمة؟
– أية لحظة ذهول تقصدها الشاعرة ؟
– أية لوعة ستسرج وترحل؟
لعلها لحظة سقوط النظام السوري نظام بشار الأسد والتي أذهلت الشعب السوري والتي بدأت من 28/ نوفمبر الى 8/ ديسمبر 2024
انها فترة وجيزة جدا ليسقط خلالها نظام سياسي وترحل فيها لوعة شعب:
– قد سُلِب الشعب السوري حريته على مدار خمسين عاما عاش فيها اللوعة من قتل وسجن وتهجير ونفي .
– قد حُرِم من موارد السياسة التي اغتصبها حكم عائلي.
وفي هذا الاطار فإن القارئ المتابع لأحداث سوريا قد يستحضر ما حدث ليجعل سقوط النظام السوري مفاجأة لم تكن في الحسبان حتى بالنسبة للذين يحلمون بذلك قائلا :
“اثنا عشر يوما كانت كفيلة بأن يسقط نظام بشار الأسد الذي جثم على صدر الشعب السوري لأكثر من خمسة عقود. نظام قام على حكم عائلي اغتصب
السياسة في البلاد واحتكر مواردها واستخدم القوة الغاشمة ضد تطلعات الشعب للحرية في كل وقت مخلفا ملايين من الضحايا القتلى والسجناء والمهجرين والمنفيين على مدار خمسين عاما الأمر الذي جعل سقوطه السريع مفاجأة لم يتوقعها أكبر الحالمين”(1).
وفي هذا الاطار لا يَفوتنا أن نذكر أن سوريا كانت مجْدا فقد تغنى العديد من الشعراء بدمشق عاصمة سوريا:
– يقول محمود درويش:
الآن جئت من الأحمر اللاحق ..اغتسلي يا دمشق بلوني..
ليُولدَ في الزمن العربي نهارُ..
– يقول الشاعر اللبناني سعيد عقيل:
وعليك عيني يا دمشق فمنك ينهمر الصباح
يا شام يا بوابة التاريخ تحرسك الرماح
– يقول الشاعر اللبناني خليل مطران شاعر القطرين:
نفديك بالأرواح و الأجساد ..إن كان قولٌ فاديًا لبلاد
يا حسن حاضرة العروبة إنها.. في كل معنى نجمة المرتاد.
– يقول نزار قباني ابن سوريا البارّ وهو مغترب في لندن حيث مات لكن جثمانه نقل الى دمشق كما كان يتمنى:
فرشتُ فوق ثراك الطاهر الهدب // فيا دمشق…لماذا نبدأ العتبا؟
حبيبتي أنت ..فاستلقي كأغنية //على ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعا.. ما من امرأة // أحببت بعدك ..إلا خِلتُها كذبا
يا شام إن جراحي لا ضفاف لها // فامسحي عن جبيني الحزن والتعبا
أتيت من رحم الأحزان.. يا وطني// أقبّل الأرض والأبواب والشهُبا
في هذا الاطار من التغني بدمشق عاصمة سوريا تتغنى شاعرتنا برحيل اللوعة
عن شعب سوريا المقهور المسلوب الحرية والارادة فتشفَى حُرُوفها من الأنين والوجع الذي ينتابها بسبب جَوْر النظام الحاكم فتقول:
في لحظة ذهول تسرج اللوعة ..
يمتصّ السكون أنين الحروف..
ان ابداعها وحرفها قد شفِيَ في هذه اللحظة التاريخية التي طالما انتظرها الشعب السوري والمبدعون أيضا.
ان الشاعرة تسِرّ الوجع الدفين الذي كان قدَرًا عليها وعلى الشعب السوري ..إنه وجع فاقت تفاصيله الخيال. انه قدَرٌ عمّر طويلا لمدّة خمسين عاما.
وكأني بالشاعرة عاجزة عن ذكر تفاصيل هذا الوجع عددا ونوعا فتقول:
حكايا مصلوبة أسندت على لوح الوجع
تفاصيل الألم تمتطي الخيال.
وبحجم هذا الوجع لم تكن تتوقع رحيل اللوعة بهكذا سرعة.
ان الشاعرة فد شخصت اللوعة حين أسندت اليها فعل الرحيل( تسرج) فتركب مثل الشخص سرج الرحيل .(والسرج هو ما يوضع على ظهر الفرس فيقعد عليه عند السفر او الرحيل).
انها صورة شعرية حسية وأول احساس هو إحساس حروفها بالراحة من كابوس الأنين الذي سكن إبداعها طويلا فالإبداع يُحسّ ويئن و يتألم . إنه يعكس أنين صاحبه.
هذه اللحظة التاريخية هي ساعة انفراج لسوريا التي تغنى بها العديد من الشعراء
انها لحظة صباح جديد وفجر يبشر بالخير فتقول الشاعرة متفائلة و مُسْتبشرة:
ترسل شعاع الحلم القادم من بعيد..
تهويمات الفجر الأولى كانت تنبئ بليل مضى.
وكأني بالشاعرة تتناص هنا مع الشابي الذي شبه المستعمر بالليل فيقول للمستعمر:
ولا بد لليل أن ينجلي// ولا بد للقيد أن ينكسر.
ولئن كان المستعمر للشابي مستعمرا خارجيا فمستعمر الشعب السوري داخلي والمستعمر الداخلي أدهى وأمرّ.
ان الشاعرة بأسلوب محمول على المجاز تقابل بين ماض أسود ومستقبل يبشر بحلم الشعب السوري.
وقد يتدخل القارئ المتابع لتاريخ سوريا ليُفيدنا بهذا الليل الأسود الذي عاشه الشعب السوري قائلا :
“بدأت أحداث الأزمة السورية في منتصف شهر آذار(مارس) عام 2011 عند خروج مظاهرات عدّة في مدن سوريا مطالبة بإطلاق الحريات وإخراج المُعْتقلين السياسيين من السجون ورفع حالة الطوارئ ثم مع الوقت ازداد سقف المطالب تدريجيا حتى وصل الى اسقاط نظام بشار بالكامل”(2).
ان هذا الليل المظلم بظلمه وجَوْره وعلقَمِه ومَرَارتِه قد جعل حرف المبدعة الهام عيسى يتنفّسُ فيقول:
حمل معه أسرار مغمسة بطعم العلقم..
ألقى رسائله في جيوب الريح..
والشاعرة هنا لا تشذّ عن العديد من الشعراء الذين قاوموا اضطهاد الشعوب
يقول الشابي مشبها المُضْطهِد بالليل تماما كما شاعرتنا:
لست أبكي لعسْف ليل طويل// أو لربْع غدا العفاء مراحه
انما عبرتي لخطب ثقيل // ولم نجد من أزاحه
كلما قام في البلاد خطيب // مُوقظ شعبه يريد صلاحه
أخْمدُوا صوته الإلاهي// أماتوا صداحه ونواحه
ألبسوا روحه قميص اضطهاد// فاتك شائك يرد جماحه
ثم يتوجه الى طغاة العالم قائلا:
ألا ايها الظالم المستبد// عدو الكفاح عدو الحياة
سخِرْتَ بأنّات شعب ضعيف // وكفك مخضوبة من دماه
ان الشاعرة ترى وهي تُسِرّ الوجع ان النظام السوري “العائلي” ممثلا في عائلة الأسد قد سخر من أنات شعب ضعيف قد سُلِب حريته الفكرية واغتُصِبتْ حقوقه السياسية ردْحا من الزمن عاش خلاله مخنوقا لا أنفاس ولا مشاعر ولا فكْرا جيلا بعد جيل . هذا ما عبّرت عنه الشاعرة ب”أسرار مغمسة بطعم العلقم”
وكأني بالشاعرة تلمّح الى مدى صَبْر الشعب السوري على هكذا معاناة والذي قد يُشبه العلقم مرارة .
وكأني بها ولسان حالها يقول “للصبر حدود” فعقبت هذه المرارة حلاوة النصر
انها حلاوة الذهول من اللحظة التاريخية السارة التي وضعت للوعة حدّا بل جعلتها ترحل حاملة معها رسائل الليل الذي قد مضى تذريها الرياح بلا عودة
محرّرة المبدع الذي يرفض أن يكون هذا الليل بلون واحد .
هذا المبدع يرفض اللون الواحد في الحاكم الواحد والعائلة الواحدة والسلطة الواحدة .
لعل الشاعرة وهي مبدعة تلمّح الى التداول في السلطة والتداول في السلطة حق
لكل مواطن سوري وكأني بها تردّد ما قاله أبو البقاء الرندي:
هي الأمور كما شاهدتها دول // ومن سرّه زمن ساءتْه أزْمانُ
انه مبدأ حق التداول في السلطة والدولة من التداول.
سلم جليل حرف الشاعرة الهام عيسى الذي استهواني لأستمتع بتحليله وتأويله شعورا منّي بالانتماء العربي للشعب السوري العربي الشقيق.
بتاريخ 05/ 03/ 2025
المراجع:
https://www.aljazeera.net(1)
القصة الكاملة لسقوط نظام الاسد في 12 يوما | سياسة
https://ar.wikipedia.org(2)
أحداث الأزمة السورية- ويكيبيديا.
Your Content Goes Here