أطياف العودة
في قاعة الانتظار، حيث الوقت معلّق بين أرض تغادرها ووطن لم تصله بعد، جلست نور تراقب الشاشة الكبيرة التي تُعلن عن الرحلات، تتأكد من بقاء اسم بلدها مكتوبًا دون تغيير: تونس.
اليوم تعود إليه، لكن هل تعود كما كانت؟ أم أن الغياب يُعيد تشكيل الأشياء كما يعيد الزمن تشكيل البشر؟
اقتربت منها سيدة في منتصف العمر، غارقةٌ عيناها في تجاعيد الرحيل، وتأملتها قليلًا قبل أن تسألها:
— “كم عمركِ؟ تبدين صغيرةً على الغياب.”
— “واحد وعشرون.”
— “ومنذ متى وأنتِ في ألمانيا؟”
ثلاثة أعوام. نطقتها نور في سرّها، خشية أن يُسمع الرقم فيثقل عليها. ثلاث شتاءات باردة، وصيفٌ واحد في تونس لم يكن كافيًا ليعيد إليها ملامحها القديمة، وألف لحظة مرت بها وهي تتساءل: هل تنتمي إلى هنا، أم إلى مكان آخر؟
انقطع سيل أفكارها بصوت آلي:
“نعتذر عن التأخير، ونتمنى لكم رحلةً ممتعة…”
زفرت بضيق وحرّكت ساقها في تململ، كأنها تحاول طرد المسافة بعيدًا. لم تحتمل انتظارًا آخر؛ ففي هذا اليوم يجب أن تكون بينهم بلا أعذار أو غيابات. أرادت أن ترى أمها وأباها وأخويها، وبسام وآية مجتمعين، ليستعيد الوطن ملامحه كما تركته.
ولكن، هل تغيّرت ملامحهم؟
هل يُعاد ترتيب الوجوه كما يُعاد ترتيب الأثاث في بيت طال غياب أصحابه؟ هل فقدت أمها دفء صوتها؟ هل صار أبوها أكثر صمتًا؟ هل كبر بسام حتى لا تعرفه؟ وهل بدت آية مختلفة في نظرها؟
سألت نور السيدة بصوت هادئ:
— “وأنتِ؟ كم مضى على غربتكِ هنا؟”
حدّقت في المرأة التي بدت غريبة، وفي الوقت ذاته مألوفة، كأنها صورة عالقة بين الماضي والمستقبل.
— “ثلاثون عامًا.”
نطقتها السيدة دون أسفٍ أو اعتزاز، فجاءت كلماتها ثقيلة على مسامع نور، كأنها تزن عمرًا بأكمله من الرحيل.
تابعت بصوت خافت، كمن يبوح بسر قديم:
— “جئتُ للدراسة، ثم تزوجتُ هنا وأنجبتُ أطفالي… كنت أعتقد أن عودتي لم تكن مكتوبة، ومع ذلك، لم أنسَ. أعود كل رمضان، أفتح بيت العائلة، أشمّ رائحة أمي على الجدران، أجلس حيث كانت تُعدّ الشاي، وأضحك مع صديقاتها… غير أن إقامتي في البلد لا تطول.”
تنهدت، كأنها تعترف أخيرًا بالحقيقة التي طالما هربت منها:
— “الغربة تجعلكِ زائرةً حتى في وطنك.”
شعرت نور بغصّة في حلقها، كأنها رأت فجأة ما كانت تتجنب مواجهته. هل سيصبح وطنها محطة عبور؟ هل ستتحول عودتها إلى زيارات متباعدة تبدأ بالحنين وتنتهي بالاغتراب؟
انضم إليهما رجل تركي، تحمل ملامحه عبق الشرق، وتحدث عن إسطنبول بحنين يشبه وصف حبيبة بعيدة. سألته نور عن بعض الأماكن التي زارتها في تركيا، فابتسم قائلًا:
— “مهما أعطتكِ الغربة، لن تمنحكِ وطنًا. لن تعطيكِ عائلة.”
كان صوته يتدفق، يوقظ شيئًا نائمًا داخلها. نظرت إليه السيدة ثم همست، مُخاطِبة نفسها قبل أن تُخاطب نور:
— “كلنا نحمل بلادنا معنا، لكنها تبقى دومًا بعيدة…”
ارتشفت من قهوتها، ثم التفتت إلى نور التي كانت تنتظر حكمةً تُنير دربها في هذا التيه.
سألت نور وهي تغالب حيرتها:
— “ما الذي تنصحين به فتاة في مثل سني؟”
حدّقت السيدة في عينيها، كأنها ترى قلقها القديم، وابتسمت ابتسامةً بين الحزن والرضا، ثم قالت بصوتٍ هادئ وحاسم:
— “ادرسي، اعملي، ولا تتعلّقي… فالجميع راحلون.”
صمتت نور. تأخرت الطائرة ساعةً أخرى، لكن التأخير هذه المرة لم يعد يعني لها شيئًا. راضية بصيلة