كتب رياض الفرطوسي
لم يكن الليل في مدريد أو لشبونة أكثر ظلمة من تلك الساعات العشر التي انطفأت فيها أنوار أوروبا فجأة، حين عاد الناس إلى “البدء”، مجرّدين من طغيان أزرارهم، عراة من هواتفهم، بلا خريطة رقمية ولا دفء شاشة. لم تكن رواية ديستوبية( الرواية الديستوبية تحكي عن عالم يبدو متطوراً أو منظماً ظاهرياً، لكنه في جوهره هشاً ) ولا فصلاً من مسلسل خيال علمي، بل حدثٌ حقيقي، واقعي، مسجّل، عاشه ملايين الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين .
كان يوماً نزع عن أوروبا ثوبها الإلكتروني، ووضعها أمام مرآة كانت ترفض النظر فيها: مرآة العجز في حضرة الظلام.
في البرتغال، تكدّس المواطنون في الشوارع يتصببون قلقاً كما يتصبب العرق على جباه المحطات المعطّلة. توقفت القطارات في منتصف السكة، واصطفت السيارات في طوابير صامتة أمام محطات وقود لا تملك إلا الصمت. في مدريد، عرض الناس المال مقابل نقلهم على طرقٍ بلا إشارات مرور، بلا ضوء أحمر أو أخضر يُرشد خطاهم. مدينة كاملة تاهت كما لو أن ذاكرتها مُسحت، ومؤسساتها عادت إلى ما قبل العصر الصناعي.
وفي قرطبة، افتُرشت الأرض في محطات القطارات، تنامى صدى الشموع وكأنها الأمل الأخير في عالم عارٍ من الكهرباء. عاد الخبز يُشوى على الفحم، وعاد السمك إلى نكهته الأولى: نار وحجر وشهية جائع لا يحمل بطاقة مصرفية. كل الماكينات توقفت، حتى الثلاجات تنفّست للمرة الأولى بلا طنين، بلا برد، وأدرك الناس فجأة أن اللحم حين لا يُجمد، يفسد.
وحدث الأمر نفسه يوماً في أمستردام، حين انقطعت الكهرباء لأول مرة منذ خمسة وعشرين عاماً، أربع ساعات فقط كانت كفيلة بتحويل المدينة إلى مسرح شبح. خرجت جارة مذعورة تتساءل: “هل وصل داعش إلى هولندا؟”. انطفأت نشرات الأخبار، توقفت كاميرات المراقبة، وانطلقت صفارات الإنذار. امتلأت الشوارع بالناس، يشتكون البرد والرطوبة والظلام بطريقة ديمقراطية، يشتمون الفراغ دون أن يوجهوا شتائمهم لأحد. توقّف كل شيء: الموسيقى، الاستحمام، الرقص، التأمل، الأخبار، والعمل.
حتى الأطفال شعروا بالخوف، كأن التاريخ قد توقّف فجأة، فكتبوا في دفاترهم: في مثل هذا اليوم، انقطع التيار الكهربائي.
كانت صفارات الإنذار تحاول أن تشرح ما لا يمكن تفسيره. طفل صغير يبكي في الظلمة، يسأل عن معنى انقطاع الكهرباء، ولا جواب.
الكهرباء لم تكن مجرّد طاقة؛ كانت الإيقاع السري لحياته. كانت “الأمان” في المصعد، و”الدفء” في الغرفة، و”اللهو” في الهاتف. حين انقطعت، انقطعت الحياة من حواشيها، من التفاصيل التي لا نفكر فيها، لكنها تمسكنا من القلب.
إن الكهرباء في أوروبا، كما في العالم، ليست رفاهية. إنها نبض المستشفيات، حيث كل جهاز مراقبة نبض يتوقف، وحياة إنسان تُهدد في صمت.
هي الشريان الذي يربط البيانات في المصارف، والوريد الذي يضخ العمليات المصرفية، ويرسم ابتسامة في وجه موظف يتصفح شاشة بنكهة الأمان. هي المصباح في غرفة مريض يقرأ آخر صفحة من رواية طويلة. هي جهاز تنفس لطفل خدج، وآلة غسل كلى لرجل ينتظر الفجر.
انقطاعها ليس مجرد حدث تقني، بل ضربة في صميم الحضارة، كأنك تنزع عن العالم قلبه الرقمي.
في الطرقات، تهاوت إشارات المرور، واختلطت السيارات والدراجات والوجوه في مشهد من الفوضى المرهقة. أما في البيوت، فقد تذكّر الناس كيف كانوا يعيشون من دون واي فاي. جلسوا في حلقات، يلعبون الورق، يضحكون كما لم يفعلوا منذ زمن، يتهامسون على ضوء شمعة عن الغد، عن الخطر، عن هشاشة كل ما بنيناه.
تقول الأنباء إن الانقطاع كان نتيجة اختراق إلكتروني، عبر الإنترنت. ليس مستبعداً. ففي زمن الذكاء الصناعي، صار التيار الكهربائي هو الهدف الأول في أي حرب غير معلنة. من لا يملك القدرة على حماية طاقته، لا يملك حماية وطنه. أوروبا، التي بَنَت أعظم منظومات الكهرباء في العالم، وجدت نفسها تحت رحمة سلك صغير، ونقطة ضعف رقمية.
لكن لهذا الحدث وجه آخر: إن الكهرباء، التي كانت رمزاً للحداثة، أصبحت أيضاً علامة هشاشتها. فكلما ازددنا اعتماداً على الطاقة، ازددنا هشاشة في غيابها. أية حضارة تبنى بالكامل على الكهرباء، دون بدائل، دون تأملات في المعنى، يمكن أن تسقط في لحظة انقطاع.
من خلف الظلال، خرجت أصوات تشكر المغرب وفرنسا، البلدان اللذان أنقذا وجه الشمال من الغرق التام في الظلام. الربط الكهربائي بين الرباط ومدريد لم يكن مشروعاً هندسياً فقط، بل صار شريان حياة، عبَر المتوسط حاملاً الضوء، ودلالة على أن التعاون بين الشعوب هو البديل الحقيقي عن العتمة.
الظلام الذي زار أوروبا في ذلك اليوم لم يكن فقط انقطاعاً في التيار، بل لحظة وعي. لقد عادت أوروبا لوهلة إلى ما قبل المصباح، وعرفت حجم ما تملكه. فللكهرباء ذاكرة، وللانقطاع أثر نفسي، كما لو أنك تسحب الغطاء فجأة عن جسد نائم.
ومنذ تلك اللحظة، سيكتب أطفال المدارس في دفاترهم: في مثل هذا اليوم، انقطعت الكهرباء عن أوروبا. وسيتذكر الكبار أنهم حين شتموا الظلام، كانوا يشتمون هشاشتهم، خوفهم، وتلك الثقة الزائدة في آلة لا روح لها، لكنها كانت تسكن كل تفصيلة من حياتهم.
Discussion about this post