كتب رياض الفرطوسي
بغداد ليست مدينة واحدة، ولا تنتمي إلى صيغة الجمع أو المفرد كما تقترح اللغة.
إنها كثافةٌ من الحيوات، تُراكم وجوهها كما تراكم الأزمنة غبارها على جدرانها العتيقة.
مدينة متشابكة، لا تُقرأ بخريطة، ولا تُلخّص بخطاب.
هي نهر من التناقضات، يسير في الاتجاهين: إلى الجذور، وإلى الهاوية.
تمشي في شوارعها، وتخال نفسك في مدينة غير مكتملة.
أجراس الكنائس تلامس نداءات المآذن، وحاناتٌ تنفتح على مكتبات، وعرائض تُكتب تحت ضوء شاحب قرب بوابات المحاكم، يخطّها رجالٌ يشبهون النُسّاك، يدونون سيرة المدينة كما تُكتب سِيَر الأولياء.
يعرفون طبقات المجتمع أكثر من فلاسفة المقاهي، وأعمق من مرتادي منصات الكلام السريع، أولئك الغارقين في زخرف اللغة وبهرج الرأي.
في بغداد، لا تلتقي الأشياء كما هي، بل كما تُخفيها ظلالها.
وما بدا أنه تعايش، انكسر حين استُبيحت المدينة، ليس فقط بسقوط النظام، بل بسقوط الحواجز النفسية، حين انفلت الخوف، وخرج المكبوت من عقاله.
كل احتلال مرّ عليها، حاول أن يفرض ذاكرته،
لكن بغداد لا تُروض.
كل من جاءها — على ظهور الجِمال أو الدبابات — انكسر على أعتابها، وذابت جحافله في رائحة الشاي ودخان النرجيلة وعبث الشعراء.
غير أن الجرح الذي أحدثته السنوات الأخيرة كان أعمق.
لم يكن احتلالًا خارجياً فحسب، بل تغلغل داخليّاً، في اللغة، في الوعي، في النفس.
بغداد ما بعد السقوط، مدينة تخلّت عن أقنعتها، ووقفت عارية أمام مرآة التاريخ، دون أن تجد في وجهها ملامح مألوفة.
الخراب الذي أصابها لم يكن في الحجر وحده، بل في الإنسان.
ذاك الإنسان المُحطَّم من الداخل، الذي يعيش على هامش الكرامة، ويختبئ في زاوية من زوايا يومه المزدحم بالمحن.
هو الموظف الأسير، والمعلم المتعب، والعامل المكسور، والتلميذ الحائر، والتاجر المنهَك.
لا يعيش الحياة كما يشتهي، بل كما تُفرض عليه.
كأن القدر قد اختار له هذا الطريق، لا حباً به، بل كعقوبة جماعية مفروضة على جيلٍ بأكمله.
لكن وسط هذا الركام، هناك من لا يزال يقاوم…
يقاوم بالدفء، بالكلمة، بالبصيرة، وبالوفاء لفكرة الحياة.
رغم طبقات الخيبة، لا تزال هناك شرفات صغيرة يطل منها الأمل،
أمٌ تُعلّم طفلها معنى الحرف،
شابٌ ينظف شارعه لأنه يؤمن بالنظام،
وفتاة تكتب، وتؤمن أن التغيير يبدأ من جملة.
في المدينة قيعان سرية، نعم،
لكن أيضاً فيها جداول خفية من الضوء.
أحياناً، يكفي أن تصغي إلى حديثٍ في مقهى شعبي، أو تشاهد نظرة عامل بلدي ينكّس رأسه بعد عناء،
لتدرك أن بغداد — مهما بلغ فيها الإنهاك — لم تفقد بوصلة المعنى.
الضجيج السياسي، والتفاهات اليومية، والمهرّجون الذين ملأوا الشاشات والمنصات، كلهم عابرون.
ما يبقى هو ذلك الخيط الصامت من الإيمان العميق بالوطن، الذي يسكن قلب الجدّات، وصبر الأمهات، وأحلام الشباب الذين لم يهاجروا بعد.
بغداد، رغم جراحها، لا تزال حيّة.
تنهض على استحياء، مثل امرأة عائدة من معركة، تحمل في عينيها الخسارة، لكنها لا تزال تمشي.
والمشي، في زمن الهزائم، بطولة.
ليست بغداد مدينة واحدة، لأنها ببساطة، لا تنتمي لنمطٍ واحد من الألم، ولا تتحدث بلهجة واحدة من الفرح.
إنها بوصلة الروح، حين تختلط الطرق.
وكل من مشى فيها طويلًا، يعرف أن ما يوجعها ليس ماضيها، بل ما يُحاك لها وهي تنظر إلى السماء.
وفي النهاية، حين يطفئ الليل آخر أنواره، يبقى في هذه المدينة قلب ينبض،
ويد تكتب،
وعين لا تزال ترفض أن تنام.
Discussion about this post