كتب سعيد فارس السعيد
✦ أولًا: حين تتحول “الأكثرية” إلى غطاء للهيمنة
في الخطابات التقليدية، يُروَّج لمفهوم “حكم الأكثرية” كمعيارٍ ديمقراطي، لكنه في الواقع السوري — المعقّد والمتعدد والمجروح — تحول في كثير من المراحل إلى شعار لهيمنة فئة على فئات، وقمع باسم العدد لا باسم الحق.
وحين تتحول “الأكثرية” إلى غطاء للسلطة، وليست وسيلة توازن وعدالة، يصبح الجميع ضحايا، حتى الأكثرية نفسها. لأن السلطة المطلقة لا تُنتج حماية لأحد، بل فسادًا عامًا، وعنفًا صامتًا أو صاخبًا في أركان الدولة والمجتمع.
إن عظمة “الأكثرية” لا تُقاس بعددها، بل بقدرتها على الاحتواء، وبنبْلها في حماية المختلف، لا في الهيمنة عليه. والتجارب الدولية الكبرى — كجنوب أفريقيا بعد الأبارتهايد، وكندا بتعددها الثقافي، والهند بديمقراطيتها الواسعة — كلّها تؤكد أن النبل السياسي والأخلاقي للأكثرية يكمن في قدرتها على بناء دولة تشاركية لا إقصائية.
✦ ثانيًا: الفيدرالية العقلانية كضرورة وطنية
لم تعد سوريا تملك ترف الانتظار أو هامش التجريب؛ عقودٌ من القمع، والتهميش، والتمييز، والدم، والفقر، والجهل، جعلت من الدولة هشّة، ومن المجتمع متشظّيًا، ومن المواطن مغتربًا في وطنه.
وأحد أهم هذه الدروس أن الاحتكار السياسي والإداري والثقافي للدولة المركزية الصلبة أنتج أزمات متراكبة زادها الجهل تفاقمًا، والعصبيات تشوّهًا.
ومن هنا، تبرز الفيدرالية العقلانية المرتبطة بوحدة الدولة المركزية، لا كترف فكري، بل كضرورة وجودية. هي صيغة حكم إداري وسياسي تتيح لكل إقليم أو محافظة أو وحدة إدارية حق إدارة شؤونها ضمن إطار وطني موحد لا يُمس فيه بالدستور، ولا بالعلم، ولا بوحدة الجيش والسيادة.
هي ليست دعوة للتقسيم، بل للتوزيع العادل للسلطة، والاعتراف بالتنوع على قاعدة الوحدة.
✦ ثالثًا: الفيدرالية لحماية الحقوق وتحقيق التوازن
إن الفيدراليات في سوريا باتت ضرورة للجميع — ليست مطلب أقليات فقط، بل حتى للأكثرية — لأنها السبيل الوحيد لضمان الحقوق والواجبات، والحفاظ على الأمن الاجتماعي والوطني لجميع السوريين.
هي ضمانة للمشاركة في السلطات، وللمساواة أمام القانون والدستور، ولصون الكرامة والعدالة بعيدًا عن هيمنة أي طرف على حساب طرف.
✦ أمثلة دولية ملهمة
ألمانيا: 16 ولاية فدرالية مستقلة إداريًا، موحدة في السيادة والدستور.
سويسرا: بلد تعددي ناجح بفضل الفيدرالية المتوازنة.
الهند: ديمقراطية عابرة للطوائف واللغات والأقاليم بفعل نظامها الفيدرالي.
الولايات المتحدة: استقرار داخلي عابر للتنوع الحاد.
الإمارات العربية المتحدة: اتحاد ناجح بين سبع إمارات ضمن دولة واحدة.
✦ خاتمة
الفيدرالية اليوم ليست تنازلًا من أكثرية لأقلية، بل عقد شراكة يحمي الجميع من أنفسهم ومن بعضهم البعض.
إننا بحاجة إلى عقد وطني جديد، يعيد إنتاج الثقة، ويؤسس لسوريا تشاركية لا إقصائية، تُبنى على الكرامة والمواطنة، لا على الهيمنة والتمييز.
لن تُبنى سوريا الجديدة إلا حين يشعر الجميع أنهم جزءٌ منها، لا على هامشها.
—
بقلم: سعيد فارس السعيد
كاتب وباحث استراتيجي سوري مستقل
“صوتٌ من أجل شرقٍ يولد من تحت الرماد، لا من تحت الركام.”
—
Discussion about this post