” عودك رنّان ”
زياد الرحباني يضع العود جانباً ويرحل
كتب رياض الفرطوسي
رحل زياد، وترك العود يتيماً.
رحل من كانت نغمة واحدة منه، كافية لتقول ما عجزت عنه البيانات والمجلدات.
رحل من لم يكن موسيقياً فقط، بل كان حالة.
منذ البداية، كان “عوده رنان”، لا لأن أنغامه تطرب فحسب، بل لأنها كانت توقظ. توقظ الوعي، وتنكأ الجرح، وتضحكك في قمة البكاء.
زياد لم يكتفِ بالمقام الموسيقي، بل أسّس مقاماً فكرياً خاصاً به. في زمن الصمت المذل، غنّى للوضوح، وفي زمن التزييف، تحدّث بواقعية جارحة.
عزف على أوتارنا قبل أن يعزف على آلته. صفعنا بلحن، وربّت على أكتافنا بجملة ساخرة.
كان يعرف متى يكون الهمس أكثر وقعاً من الصراخ، ومتى يكون الضحك أبلغ من الرثاء.
لم يكن “العود” عند زياد مجرّد آلة، بل كان شاهداً على مسرح الحياة التي كتبها وعاشها ومثّلها.
وهو الذي قال ذات مسرحية:
“الناس عم تبكي غلط، وعم تضحك غلط…”
كان يعلم أننا نعيش الحياة مقلوبة، لذلك حاول أن يعدّلها بـ”دو” و”صول” و”كمنجة” ونكتة.
وفي كل مرة كان عوده يرنّ، كنا نشعر أنه يوقظ فينا شيئاً نائماً، وربما ميتاً.
زياد كان ضد العادي. ضد المألوف.
في الحب، كان فوضوياً جميلاً.
في السياسة، كان حاداً لا يجامل.
في الفن، كان عبقرياً لا يعترف بالقوالب.
كتب أميركا مين بالمصري، وسخر من الاستعمار بالأغنية، وانتقد التخلف بألف ضحكة.
وحين سُئل عن الموت، قال:
“تصالحنا… بعد ما كانت في مشكلة بينا.”
حتى الموت، واجهه بروح المصالحة، لا بالانكسار.
ترك لنا إرثاً لا يُبكى عليه، بل يُدرس ويُستعاد.
ترك نغمة لا زالت ترنّ… وعوداً لا زال يصدح، حتى في غيابه.
عودك رنان يا زياد…
رنّ فينا وعلّمنا كيف نعيش بلا أقنعة.
رنّ حتى في لحظة وداعك، وجعل الموت يبدو أقل قسوة، حين مرّ عبر أوتارك.
رحلت، لكن صوتك باقٍ، وأفكارك تتكاثر،
وألحانك تُولد من جديد، كلما ضاقت الحياة.
وداعاً يا صديق الفكرة، يا شاعر اللحن،
يا من جعلت من “اللاشيء” كل شيء.
Discussion about this post