كتب رياض الفرطوسي
في زمن تتشابك فيه الأصوات وتتداخل فيه الحقائق مع الأوهام، يصبح الخبر الكاذب أشد فتكاً من رصاصة طائشة. فالشائعة ليست مجرد جملة عابرة تولد على هامش جلسة أو تُكتب بخفة على شاشة هاتف محمول، بل هي سهم مسموم ينغرس في وعي المجتمع، ويُضعف يقينه بذاته، ويهز ثقته بدولته ومؤسساته. وإذا كان التاريخ قد علّم العراقيين أن السيوف والبنادق يمكن أن تُكسر أمام صمود الإرادة، فإن المعركة الجديدة التي يخوضونها اليوم ضد الشائعات تضعهم أمام امتحان آخر لا يقل خطورة، لأنها حرب تستهدف العقول قبل الأجساد، وتزرع الشك في مكان الإيمان، والريبة في قلب الطمأنينة.
الشائعة كائن ماكر، لا يعيش في الضوء، بل يتغذى من الظلال، يزدهر في الفوضى والقلق، ويكبر كلما ازداد الغموض. إنها طفيلي لا يملك قوة في ذاته، لكنه يستعير قوته من هشاشة المتلقي الذي قد يتلقفها من دون تمحيص، فينقلها بدوره إلى آخرين، حتى تتحول من جملة صغيرة إلى كرة ثلج تتدحرج بسرعة هائلة. وما يجعلها أكثر دهاء أنها تقدم للناس إجابات سريعة ومغرية عن أسئلة معقدة، وتوهمهم بأن وراء كل أزمة مؤامرة كاملة الحبكة، بينما الحقيقة غالباً أكثر بساطة وأشد تعقيداً في آن واحد.
في مواجهة هذه الموجات المتلاحقة من التضليل، يبرز الإعلام الأمني بوصفه درع المجتمع وصوته الحارس. لم يعد الصمت ممكناً في عصر تتناسل فيه الأخبار على منصات التواصل كما تتناسل الأمواج على سطح البحر، لأن الفراغ الذي تتركه الحقيقة يملؤه الكذب على الفور. من هنا يغدو الإعلام الأمني ليس واجهة دعائية أو شكلاً من أشكال التجميل المؤسسي، بل ضرورة استراتيجية لبقاء الدولة وصمود المجتمع. فالمعلومة الموثوقة، حين تُعلن بصدق وسرعة، تصبح بمثابة المضاد الحيوي الذي يوقف انتشار العدوى، ويعيد الطمأنينة إلى النفوس القلقة.
لكن هذه المواجهة لا تخص المؤسسات وحدها، فالمواطن هو الحلقة الجوهرية في المعركة. إن كل فرد يختار أن يتريث قبل مشاركة خبر، أو يبحث عن مصدر موثوق، أو يتساءل عن صدق ما يقرأ، يكون قد رفع حجراً في جدار الحقيقة. المعركة ليست بين الدولة وخصومها فقط، بل بين وعي جماعي يريد أن يحمي نفسه، وبين جيوش منظمّة تستثمر في التضليل والتشويش. لذلك، فإن الثقة المتبادلة بين المواطن ومؤسسات الدولة هي السلاح الأقوى الذي يمكن أن يهزم أي إشاعة، لأن الإنسان حين يثق بمصدره لن ينصت إلى الأصوات التي تحاول تضليله.
والشائعات، كما هو معروف، لا تزدهر إلا في مواسمها. ففي أوقات الانتخابات مثلاً، تشتعل منصات التواصل بحملات مسعورة لاثارة البلبلة في صفوف الناس ودفعهم الى اليأس من جدوى العملية الانتخابية وكل ما اقتربت الانتخابات تتسع مساحات التهويل والتشكيك وتصبح الشائعة اداة لتأليب الرأي العام او ارباك المواقف ‘ ، فتتضاعف الحاجة إلى صوت واثق يعيد التوازن، ويمنح الناس القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مختلق . وهنا ، يبرز دور الإعلام الأمني كعين راصدة تتنبأ بالعاصفة قبل أن تقع، فيقدم المعلومة الموثوقة في وقتها، ويقطع الطريق على صناع الكذب الذين يتغذون على الشكوك.
ولا يمكن أن نتجاهل أن الشباب يشكلون القلب النابض لهذه المعركة، فهم الأكثر عدداً والأكثر حضوراً في فضاء السوشيال ميديا، ومن ثم فهم الأكثر عرضة للانخداع وأيضاً الأكثر قدرة على الرد. إن طاقة الشباب إذا ما وُجهت نحو الوعي، يمكن أن تتحول من وقود للشائعة إلى سور يصدها، ومن أرض خصبة للأكاذيب إلى منابر للحقيقة. إنهم ليسوا مجرد متلقين سلبيين، بل صُنّاع رأي وقادة محتوى، وحين يدركون خطورة مشاركاتهم، تتحول الساحة الافتراضية من ساحة للتيه والضياع إلى ميدان لحماية الوعي الجمعي.
إن تطوير الإعلام الأمني ليكون على مستوى التحدي يستلزم الكثير من الأدوات. لا بد من فرق مدربة تملك خبرة في سرعة التعامل مع المنصات الرقمية، ولا بد من خطاب يتسم بالشفافية التي تجعل المواطن يصدق حتى حين يسمع خبراً صعباً أو مؤلماً، ولا بد من تكامل بين مختلف مؤسسات الدولة كي لا يظل أي فراغ يسمح للشائعة بالنمو. كما أن نشر ثقافة التحقق والتفكير النقدي بين الناس يمثل خط دفاع طويل الأمد، لأن المجتمع الواعي يقطع الطريق على كل من يحاول التضليل مهما كان دهاؤه.
قد يتوهم البعض أن الشائعة مجرد كلام عابر، لكن تجارب التاريخ تبرهن أنها قد تشعل حرباً أو تسقط اقتصاداً أو تُربك دولة بأكملها. الكلمات حين تفقد ضوابطها قد تكون أشد فتكاً من السلاح، لأنها تضرب المعنويات وتزرع الشك وتدمر الثقة، وهذه كلها أسلحة تفوق في خطورتها أحياناً قوة النار والبارود. من هنا، فإن معركتنا ضد الشائعات ليست تفصيلاً صغيراً في مسيرة الوطن، بل هي صميم معركة الوجود والاستقرار، لأنها معركة على الوعي، على المعنى، على الحقيقة ذاتها.
وفي نهاية المطاف، لن يكون الانتصار في هذه الحرب نصراً عسكرياً ولا ميدانياً، بل نصراً معنوياً وثقافياً. النصر الحقيقي أن يملك المجتمع القدرة على التمييز بين الصدق والزيف، وأن تتشكل لديه حصانة تجعل كل شائعة ترتد على صانعها. الإعلام الأمني هنا ليس مجرد صوت عابر، بل هو درع الحقيقة، الدرع الذي يحمي العراقيين من السهام المسمومة، ويصون وحدتهم في وجه العواصف الرقمية التي تهب من كل اتجاه. فالوطن لا يُحمى بالقوة المادية وحدها، بل بالثقة التي لا تهتز، وبالإيمان بأن الحقيقة، مهما كانت مؤلمة، أقوى وأبقى من جميع الأكاذيب.
Discussion about this post