قراءة نقدية:” القصيدة ولعبة أسلوب التشخيص والتجسيد ”
التفريغ النصي: “انقلاب الموازين”
القصيدة: ” اغتيال الفجر ”
الشاعرة الهام عيسى (سوريا)
الناقدة جليلة المازني (تونس)
القراءة النقدية:” القصيدة و لعبة أسلوب التشخيص والتجسيد”
1- عتبة العنوان “اغتيال الفجر”
لقد ورد العنوان مركبا اضافيا حاملا لمفارقة لفظية ومعنوية بين المضاف والمضاف اليه فأضافت الشاعرة الفجر الى الاغتيال.
والاغتيال كما يرى بعض الباحثين :”هو القتل المتعمد والمدروس لشخصية بارزة ومؤثرة مثل شخصية سياسية أو عسكرية أو دينية وغالبا ما يكون لدوافع سياسية أو عقائدية أو اقتصادية”.
والاغتيال يُحيل الى جريمة وضحية.
بيد أن جريمة الاغتيال من خلال العنوان حصلت لضحية مادية ذات بعد معنوي (الفجر).فالفجر له جانبان:
– جانب مادي باعتباره ظاهرة طبيعية تتمثل في بزوغ النور في الأفق الشرقي.
– جانب معنوي باعتباره وقت صلاة الفجر وهي فريضة دينية لها ارتباط روحي بالمسلمين وهو وقت للعبادة والتضرع والدعاء لله سبحانه وتعالى.
وفي هذا الاطار شخّصت الشاعرة الفجر ليتمّ اغتياله:
والتشخيص في البلاغة العربية مصطلح يعني منح صفات انسانية لشيء غير انساني.
وهو أسلوب يجعل الافكار او الاشياء غيرالحية تبدو حيّة باضفاء صفات بشرية عليها (1) .
والتجسيد لغة هو ابراز المعنوي في قالب مادي محسوس اي تحويل الافكار و المشاعر المجردة الى شيء ملموس يمكن لمسه او رؤيته
والدلالة الاسلوبية للتشخيص والتجسيد تتمثل في:
– اضفاء بعد عاطفي ودرامي يجعل القارئ يشعر بمشاعر الشخصيات أو المفاهيم بصورة أعمق.
– تغيير آفاق المتلقي: يعيد التشخيص صياغة نظرة القارئ الى النص ويمكنه من فهم دلالات ثانوية وجمالية تتجاوز المعنى المعجمي المباشر للكلمة.
– بث الحياة في الطبيعة و الجمادات بمنحها صفات بشرية.
– تقريب المعنوي الى المحسوس يسهل فهمه.
– التوضيح والتفسير: يمكن التشخيص الكاتب من التعبير عن أفكاره ومقاصده بطريقة مبتكرة.
وفي هذا الاطار فقد منحت الشاعرة صفة بشرية(الاغتيال) للفجر الذي هومادي وله بعد معنوي:
– أي فجر تمّ اغتياله؟
من تعمّد اغتيال هذا الفجر؟
2- التحليل:” القصيدة و لعبة أسلوب التشخيص والتجسيد”.
استهلت الشاعرة الهام عيسى قصيدتها بذكر إطار زماني (الصباح)
– لغويا : يشير الصباح لغة الى الفجر أو أول النهار وهو الفترة التي يتحول فيها
الظلام الى ضياء ويبصر ما حوله. وقد قال العرب “أغنى الصباح عن المصباح”
– الدلالة الثقافية: الصباح يجسّد فكرة البدايات الجديدة والأمل وفكرة أن يكون المرء أفضل.
كما يُعتبر الصباح” في العديد من الثقافات القديمة وقتا مقدّسا يمثل استيقاظ العالم من الظلام الى النور “(2).
فأيّ صباح تثيره الشاعرة؟
– هل هو الصباح الحامل لبدايات جديدة وأمل واستبشار؟
– هل هو الصباح المقدس بأخباره المباركة؟
– هل هو الصباح المحكوم بالانتكاس والحامل لمفارقة؟
تقول الشاعرة:
الصباح مجموعة أوراق مبعثره
ان الشاعرة تقدم كلمة “الصباح “لتوهم القارئ بالحديث عن بدايات جديدة وضياء بعد الظلام ولكن سرعان ما تفاجئ القارئ بتعريف لهذا الصباح لتجعله “مجموعة
أوراق مبعثره”.
والأوراق المبعثرة محمولة هي الأخرى على المجاز وتشير حسب بعض الدارسين الى:
“ذكريات أو أفكار أو جوانب من حياة انسان متناثرة وغير مرتبة أو تجربة انسانية تتسم بالفوضى الداخلية والعجز وصعوبة التركيز”.
وفي هذا الاطار:
– هل الشاعرة تتحدث عن تجربة انسانية تتسم بالفوضى الى حد أنها قلبتْ الطاولة على مفهوم الصباح بنوره وجديده؟
– هل انقلبت الموازين في ذهن الشاعرة؟
– هل أن الصباح رمز النور والضياء يتحول الى عتمة وفوضى؟
– هل أن الصباح رمز الانفراج يتحول الى أزمة؟
لقد استخدمت الشاعرة التشخيص وهواستعارة تشبيهية فشبهت الصباح بمجموعة أورا ق مبعثرة. وهي تقنية التجسيد و التشخيص:
– التجسيد لتقريب المعنوي الى المحسوس وتيسير فهمه.
– التشخيص لتوضيح الشاعرة وتفسير أفكارها ومقاصدها التي تريد ان تعبر عنها بطريقة مبتكرة.
عادة الأوراق المبعثرة تنسب للانسان اذا كان في حالة فوضى.
بيد ان الشاعرة منحتها للصباح للتعبير عن قلب الموازين وقلب الطاولة على الصباح الذي وسمته بتجربة انسانية فوضوية.
وهذه التجربة الانسانية الفوضوية والمشتتة بين مطرقة الذاتي وسندان الموضوعي:
فشكواها دليل على ضعفها في ترتيب بيتها الداخلي وعيْبُها ذاتي نابع من ضعفها وعجزها على تجاوز الفوضى فتقول:
” تارة تشكو وأخرى معوره..”
فلا الآخر نفعها حين تشكو اليه ولا هي نفسها تجاوزت عيْبها وضعفها
انها تجربة انسانية وذكريات محكومة بالعجز في الداخل وفي الخارج.
ان هذه المجموعة التي وصمتها بالأوراق المبعثرة تعيش صراعا وجوديا ذاتيا وموضوعيا , داخليا وخارجيا.
وهل أكثر من أنها تنصّلت حتى من ماضيها لتصبح مُنْبتّة فتقول:
خطواتها هاربة من ذكريات ممزقه
صمت اعتراها مذ .. غدت
الدروب مشرشره
– هل ان خطوات هذه المجموعة من الاوراق المبعثره التي شبهت بها الصباح قد تجاهلت تاريخها الرديء وانتابها الصمت منذ أصبحت السبل مُسننة توحي بالخطر ؟
وتعود مرة أخرى الى التشخيص والتجسيد لتضفي على مجموعة الاوراق المبعثرة سمة بشرية لتجعل لها خطوات هاربة من ذكريات ممزقة متنصلة من ماضيها الأليم.
– أي سبل مُسننة تماما كالسكين القاطعة وخطيرة تلمّح اليها الشاعرة؟
لقد استخدمت الشاعرة المعادل الموضوعي لانتفاء الحلول للخروج من هذه الأزمة الداخلية والخارجية مُلمّحة من خلال رسمها لصورة شعرية تجسد فيها انعدام الحلول وانسداد الآفاق التي أصبحت معادلة للموت فتقول:
أغلقت النافذات قسرا وغدا الأفق مقبره
وهل أكثر من أن الأفق قد غدا مقبرة؟
انه تجسيد للأفق الذي تحول قسرا الى مقبرة
ان كل من يتوق ليتنفس هواء صباح جديد يكون مصيره الموت الحتمي.
وبالتالي أي صباح جديد وأي حياة جديدة لفجر تمّ اغتياله عمدا؟
انه قدر الموت المحتوم لهذا الصباح ولهذا الفجر.
انه الصباح الذي يُسْلبُ نوره وضياؤه.
انه الصباح الذي يُخنق قبل أن ينبلج نوره
انه انفراج يُقتل في رحم الظلام والعتمة دون أن يرى النور.
ان الشاعرة لا تخفي عن القارئ وجعها:
– انها ترثي هذا الصباح المبعثر وهذا الفجر الميت الذي تمّ اغتياله وقتله عمدا.
– انها في المقابل تهجو ضمنيا من تعمّد قتله وجعله ضحية وشهيد النور والحق والانفراج.
وبين رثاء لهذا الفقيد العظيم ( الفجر/ الصباح) وهجاء لمن سوّلت له نفسه اخماد ضيائه وإطفاء نوره واغتياله قد يتدخل القارئ وقد يتعاطف مع الشاعرة ليعينها على الرثاء والهجاء.
ان القارئ في هذا السياق وقد أدمت الشاعرة قلبه وأثارت مشاعره بقوة قد يستحضر ما قاله الشابي في اخماد كل صوت يريد أفقا وصباحا جديدا تنفيسا عنها وتهوينا لها لفضاعة اغتيال الفجر وسلب الصباح حقه الطبيعي في الضياء:
كلما قام في البلاد خطيب// موقظ شعبه يريد صلاحه
أخمدوا صوته الإلهي بالعسف// أماتوا صداحه ونواحه
والشاعرة تزداد وجعا وحزنا ولا شيء يطفئ نار وجعها او يخمد لهيب حزنها فتقول :
شاحبة القلوب مخازن الدمع فيها معمره
جدرانها حكايات كانت تسمى خرافه
ان الشاعرة ازاء انسداد الحلول وانعدام الانفراج واستقرار الأزمة تستسلم للحزن وتسلم بالامر حيث تتحول الحقيقة خرافة وتتحول القلوب الى بكاء ساكن فيها
والخرافة حسب بعض النقاد “هي حديث مستملح من الكذب او ما يصدّق بالوهم وتشمل المعتقدات التي تتناقض مع العقل والواقع”
وبالتالي هل تتأزم الامور لتتحول التجربة الانسانية الى خرافة وبالتالي الى كذبة لا واقع لها ولا وجود ولا تاريخ؟ انه الانبتات من الجذور.
واكثر من ذلك فقد بلغ التشاؤم بالشاعرة أن الحزن أصبح وقائع مصورة.انها تستخدم مرة أخرى ثنائية التجسيد والتشخيص.
انه التاريخ الذي لا يرحم والذي يتجاوز الشعور بالحزن الى التوثيق وهذا يشي بان الحزن شامل ولا يستثني ورقة من مجموعة الاوراق المبعثرة.
انها مجموعة تعيش الغربة والوحشة والتيه والضياع :
– فلا خلّ يؤنس وحدتها وينتشلها من الضياع.
ولا شعاع ينير ويضيء دربها لتهتدي الى السبيل القويم
وهي بذلك لا ترى سبيلا لنجاتها
انها المهالك والهلاك الذي يهدد كيانها …انه الحصار وسط أسوار مغلقة
تقول الشاعرة:
وها قد غدا الحزن وقائع مصوره
لا خل فيها لا شعاع يعبر بنا
مهالك موج كل ما فيه مسوره
لقد جسدت الموج المهدد لهذه المجموعة من الاوراق المبعثرة بان جعلت له أسوارا بمثابة الحاجز الذي يمنع كل منفذ للنجاة وكل امكانية لعملية انقاذ.
ان الشاعرة باستخدام أسلوب التجسيد والتشخيص كأني بها تتهم طرفا اغتال الفجر وقلب الطاولة على الصباح ومن ثمّ كان رثاؤها للفجر الفقيد وللصباح الذي تحول الى أزمة.
وقد دعمت الشاعرة هذا الوجع الذي سكنها باستخدام رويّ “الهاء الساكنة “للتعبير بامتياز بواسطة هذا الحرف المهموس بانهيار قواها وعدم القدرة على الجهر بوجعها.
فكانت القصيدة مطبوعة بمسحة من التشاؤم قد يجعل القارئ يفهم بقلبه وجع الشاعرة التي قامت من وجهة نظر حقوقية ترافع على هذا الفجر الذي تم اغتياله وسُلبت روحانياته وهذا الصباح المبعثر الذي أخمد فيه نوره وضياؤه..
انها لا تستوعب:
– زمنا يصبح فيه الصباح ظلاما
– زمنا يصبح فيه الظلم مستشريا عمدا بالاغتيال.
– زمنا يصبح فيه الانفراج أزمة.
والشاعرة باستخدام أسلوب قائم على ثنائية التجسيد والتشخيص قد تؤثر على القارئ من خلال تضخيم وتكبير حجم مشاعر انسانية مثل الحزن الذي استبد بقلبها وبكل القلوب…انها:
– تضفي بُعْدا عاطفيا ودراميا يجعل القارئ يشعر بمشاعر الشخصيات أو المفاهيم بصورة أعمق.
– تغير آفاق المتلقي: يعيد التشخيص صياغة نظرة القارئ الى النص ويمكنه من فهم دلالات ثانوية وجمالية تتجاوز المعنى المعجمي المباشر للكلمة.
ولئن تفاعل القارئ معها بما حدث من قلب موازين متأثرا لعله يتدخل ليوازن بين ثنائية التشاؤم والتفاؤل ويبثّها شيئا من التفاؤل وبعض أمل الشابي لإحياء فجر جديد وانتشال الصباح من الفوضى وانجلاء الليل بقوله:
ان ذا عصر ظلمة غير أني// من وراء الظلام شمت صباحه
ضيع الدهر مجد شعبي ولكن// سترد الحياة يوما وشاحه
سلم قلم الشاعرة الهام عيسى المسكون بالوجع الانساني.
المراجع:
(1) الفرق بين التجسيد والتشخيص والتجسيم- مناهل التعليم
(2) الصباح: معنى واصل الاسم الاول- الانساب
اغتيال الفجر
الهام عيسى
الصباح مجموعة من الأوراق مبعثره
تارة تشكو واخرى معوره..
خطواتها هاربة من ذكريات ممزقه
صمت اعتراها مذ .. غدت
الدروب مشرشره..
اغلقت النافذات قسرا وغد الافق مقبره
شاحبة القلوب مخازن الدمع فيها معمره
جدرانها حكايات كانت تسمى خرافة
وها قد غدا الحزن وقائع مصوره
لا خل فيها لا شعاع يعبر بنا ..
مهالك موج كل ما فيه مسوره
Discussion about this post