كتب رياض الفرطوسي
خرجت من المنزل في صباح هادئ، أتنفس نسيم المدينة العائم بين المباني القديمة والقنوات المائية، وأتجه نحو المكتبة الرئيسية في قلب أمستردام. الشوارع هادئة، خطوات المارة متأنية، أصوات العجلات على الرصيف تكاد تندمج مع هدير مياه القنوات. شعور بالسكينة يغلف المكان، وكأن المدينة نفسها تدعوك للتأمل، للتوقف عن الانقياد للفوضى اليومية، وللتمعن في ما وراء الضوضاء.
دخلت المكتبة، وابتلعني عالمها الهادئ بين رفوف الكتب المكدسة، الروايات، والقصص التي تحمل خبرات البشرية على مر العصور. جلست على أحد المقاعد الخشبية، وفتحت كتاباً، لكن عقلي لم يلبث أن تشتت نحو الانتخابات الهولندية المقبلة، التي ستجري يوم 29 أكتوبر. تساءلت: كيف يبدو التنافس السياسي هنا؟ كيف يلتقي المواطن مع وعيه؟ وكيف تُحترم حقوقه دون سباق على الأموال، دون تشهير بالمرشحين، دون ألعاب النفوذ والامتيازات؟
هنا، في هذه اللحظات، بدا واضحاً أن الديمقراطية ليست شعاراً، بل ممارسة حضارية، تجربة تنضج بين الكتب وبين الفكر الحر. الأصوات تتناغم مع العقل، والاختيار نابع من الفهم، لا من الضجيج أو الإكراه الإعلامي. كان الهدوء المحيط بي يشبه اللوحة التي توضح لنا كيف يمكن للأفكار أن تتلاقى، وتبني رؤية صافية وواضحة، بعيداً عن التشويش والخداع.
لكن بعد ساعات، رجعت إلى فضاء المنزل، بعيداً عن هدوء أمستردام، إلى فضاء الفضائيات والأخبار، حيث الانتخابات في العراق تتصدر المشهد الإعلامي بلا توقف. كل شيء حاضر: التقارير، التعليقات، التحليلات، لكن الأفكار والمعرفة والثقافة بالكاد تُرى. هنا تُطرح الأجندات والمصالح، ويتقاطع الضجيج الإعلامي مع السياسة بطريقة تجعل الوعي الشعبي محاصراً، والفكر الحر بعيد المنال. في هذا الفضاء، يصبح الاختيار أصعب، والمشاركة أكثر تعقيداً، وصراع الأفكار حقيقياً ومريراً.
بين هذين الفضاءين، أدركت الحقيقة الكبرى: صراع الأفكار ليس مجرد فكرة نظرية، بل ممارسة يومية وحية. بين دولة تحمي الفكر الحر وتؤسس لممارسة ديمقراطية حضارية، وبين مجتمع يختنق بين الضجيج والصراعات والمصالح، يتضح المسار الحقيقي للتغيير. كل لحظة في المكتبة، وكل خبر يُعرض على الشاشة، تحكي عن قدرة المجتمع على التمييز بين الفوضى والنظام، بين الوعي والصخب، بين التفكير الحر والانقياد للأجندات الضيقة.
وهكذا، الانتخابات تصبح أكثر من صناديق اقتراع؛ تصبح مرآة تعكس نضج المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات الفكرية، اختباراً صريحاً لصراع الأفكار بين الهدوء والفوضى، بين المساحة التي يحتضن فيها العقل الحر، وتلك التي يُسجن فيها تحت وطأة الضجيج والمصلحة. وفي كل مرة أصفق الكتب وأغلق الأخبار، أشعر بأن المهمة الحقيقية ليست التصويت فحسب، بل البحث عن المعرفة، وفهم العالم، وإعطاء الأفكار حريتها لتصنع مستقبلاً أفضل.

















Discussion about this post