سلسلة مقالات تثقيفية تصدر عن دار الشعب للنشر.
في بدايات تشكيل الدولة الوطنية في سوريا و مع بدايات القرن العشرين، شكّل الوجود الشيعي في سوريا أحد روافد التعددية التاريخية للمجتمع السوري، ليس بوصفه كتلة مذهبية مغلقة، بل كمكوّن منخرط في مشروع الدولة الوطنية الحديثة.
تميّز الشيعة السوريون بانفتاحهم الاجتماعي واندماجهم في مؤسسات الدولة، ما جعلهم جزءًا من النسيج العام لا من الهويات الفرعية المتقوقعة.
الجغرافيا الاجتماعية للمكوّن الشيعي
يتوزع الشيعة في سوريا على تجمعات تاريخية متجذّرة في نسيجها المحلي:
في دمشق، حيث الحيّ الذي يحمل اسم حيّ الأمين، وهو مركز ديني وثقافي عُرف بالاعتدال والانفتاح كذلك هناك تجمع مهم في جبل زين العابدين و حي الامام جعفر الصادق
وفي ريف إدلب توجد بلدتا كفريا والفوعة، اللتان مثّلتا حضورًا راسخًا للطائفة في الشمال السوري، قبل أن تتعرضا لسنوات من الحصار خلال الحرب الأخيرة.
أما في محافظة حلب، فتُعد بلدتا نبل والزهراء من أبرز المراكز الشيعية في الشمال، وقد حافظتا على روابط اقتصادية واجتماعية وثقافية وثيقة مع محيطهما الحلبي بالاضافة الى وجود في بعض أحياء حلب
وفي ريف حماة وحمص وريف اللاذقية، تنتشر تجمعات صغيرة متداخلة مع المكونات الأخرى، ما يؤكد الطبيعة غير المنعزلة للوجود الشيعي السوري.
كما يوجد تجمعات شيعية لا بأس بها في محافظة درعا وبصرى الشام، وهو ما يعكس امتداد الوجود الشيعي السوري في مناطق متعددة خارج المراكز التقليدية.
هذا الانتشار الجغرافي الموزّع لا يعكس مجرد حضور سكاني، بل يعبر عن نموذج العيش المشترك الذي لم تُمحِه التحولات السياسية أو النزاعات المذهبية التي شهدتها المنطقة.
البعد الروحي والثقافي
يرتبط الوجود الشيعي في سوريا بمجموعة من المقامات والمزارات التي تشكل جزءًا أصيلًا من الذاكرة الدينية الإسلامية المشتركة، وتحمل بعدًا روحيًا يتجاوز المذهب الواحد.
ففي دمشق، يقع مقام السيدة زينب (ع)، الذي أصبح مركزًا دينيًا وثقافيًا عالميًا، يجذب الزوار من مختلف الدول الإسلامية، ويُعد رمزًا للهوية الروحية الجامعة، ويشهد أيضًا تجمعًا شيعيًا نشطًا ضمن المدينة.
وفي قلب المدينة القديمة، يوجد مقام السيدة رقية (ع) في حي العمارة.
بينما يحتضن الجامع الأموي الكبير في دمشق مقام رأس الإمام الحسين (ع)، وهو من أقدس الرموز في الوعي الشيعي والسنّي على حد سواء.
إلى جانب ذلك، يبرز مقام الصحابي حجر بن عدي الكندي في عدرا، رمزًا للمقاومة المبكرة في وجه الظلم السياسي، ومَعلمًا من معالم الذاكرة الإسلامية السورية.
هذه المقامات لم تكن مجرد أماكن عبادة، بل فضاءات تداخل فيها التاريخ بالدين، والدين بالثقافة، والثقافة بالهوية الوطنية، وجعلت من سوريا مركزًا للتلاقي بين المشارب الإسلامية المتعددة.
المشاركة في بناء الدولة الوطنية
ساهم الشيعة السوريون في مراحل متعددة من بناء الدولة الحديثة، منذ فترة الانتداب الفرنسي وصولًا إلى مرحلة الاستقلال، عبر التعليم، والقضاء، والجيش، والإدارة.
اتسم حضورهم بالهدوء والفاعلية، بعيدًا عن السعي لتأسيس كيان سياسي طائفي، وهو ما ميّز التجربة الشيعية السورية عن غيرها في الإقليم.
لقد كان الوعي الجمعي للطائفة يقوم على أن الدولة المدنية هي الضمانة للعدالة والمساواة، وأن التنوّع المذهبي لا يُدار بالانعزال، بل بالاندماج ضمن مؤسسات الدولة الجامعة.
كما أن الشيعة كان لهم دور كبير في الحركة الثقافية والفكرية في سوريا، وكانت مرجعيتهم الدائمة هي مرجعية داخلية مرتبطة بالانتماء للدولة السورية، حيث أثبتوا بكل الظروف أنهم يمثلون مدرسة إسلامية وطنية أصيلة.
الإصلاح الفكري والوجه الثقافي
مثّل المفكر السيد محسن الأمين – الذي عاش في دمشق وأسس مدرسته الفكرية في حي الأمين – رمزًا لمرحلة التنوير الديني التي ربطت بين إصلاح الوعي المذهبي وبناء الدولة الوطنية.
فقد دعا إلى نبذ التعصب، وإلى قراءة حديثة للتراث، معتبرًا أن النهضة الحقيقية تبدأ من الإصلاح الديني.
كما أثّر فكره في أجيال من العلماء والمثقفين السوريين، من مختلف الطوائف، وأسّس لخطابٍ وطني عقلاني ما زال يُستعاد حتى اليوم.
كما من أبرز الشخصيات التاريخية الأخرى: السيد علي مكي والسيد محمد حسين الراغب، الذين أسهموا في الثقافة والفكر والوعي الوطني خلال فترات سابقة.
وعلى صعيد الفن، برز أسماء معروفة مشهورة في الوسط الفني على المستوى السوري و العربي مثل الفنان الكبير دريد لحام ، وعباس النوري، وهاني الروماني، و أسامة الروماني، وعلي كريم، والذين ساهموا في إبراز صورة إيجابية للشيعة السوريين في الثقافة الشعبية.
وفي المجال العلمي والطبي، برز الدكتور هاني مرتضى كإضافة للوجود الشيعي في ميادين العلم والطب.
و كذلك في الاقتصاد و الأعمال يشهد لأسم الأستاذ صائب نحاس لما له من دور مميز في التنمية الاقتصادية
الشيعة والهوية السورية الجامعة
لم يعرف الشيعة السوريون مفهوم “الانعزال الهوياتي”، بل شاركوا في تكوين ما يمكن تسميته بـ”العقل الوطني السوري”، الذي يرى في التعددية مصدر قوة لا ضعفًا.
لقد أسهموا، من موقعهم الفكري والاجتماعي، في ترسيخ فكرة أن الوطن هو هوية مشتركة، وأن المذهب هو طريق إلى الله لا إلى السياسة.
وهكذا، فإن دور الشيعة في سوريا لا يمكن اختزاله في الجغرافيا أو الطقوس، بل هو دور بنيوي في تكوين الوعي الوطني، وفي الدفاع عن فكرة الدولة الجامعة التي تعلو على الانتماءات الضيقة.
الإعداد مجموعة من الباحثين في دار الشعب للنشر
الاشراف د. حسين راغب الحسين مدير الدار


















Discussion about this post