منذ سنوات طويلة، اجرت مجلة العربي الكويتية، تحقيقا مصورا عن شعب الهونزا، الذي يعيش في جبال الهيمالايا، ويشتهرون بجمالهم وقوة بنيتهم، ويعمرون طويلا، وبدأ كاتب التحقيق بالقول.. كانت هناك مفاجأة سارة، وهي ان شعب الهونزا مسلم، لكن ما هو غير سار، انهم اسماعيليون.
يومها اضحكتني العبارة جدا.
ورغم انني كنت في بداية حياتي العملية، والتعرف على العالم الخارجي، من خلال نهمي على القراءة، لكنني تساءلت بيني وبين نفسي، واين هي المشكلة في ان يكونوا اسماعيليون؟.. خاصة وان الكاتب ذاهب ليجري تحقيقا عن حياتهم وسط الجبال الشاهقة، وليس للبحث عن ديانتهم وطائفتهم.
ولان السؤال يشكل نقطة جوهرية عندي، لم انسَ التحقيق، وهذه الفقرة تحديداً، رغم مضي كل هذه السنوات.
هذه القصة والتساؤل تجددا عندي، مع الجدل الكبير الذي أثاره فوز زهران ممداني، بمنصب عمدة نيويورك.
ففي البداية جاءت التقارير عنه بأنه مسلم، فبدأت الطبول تقرع، والمزامير تصدح، فرحا وطربا – وعذرا شديداً على التوضيح الذي أصبحنا مضطرون عليه – (عند المسلمين السنة تحديدا) لكن هذه الموسيقا خفتت فجأة، عندما تبين انه مسلم شيعي.
وتحول الصمت إلى صدمة، عندما قالت المعلومات ان زوجته علوية، من بيت دوجي في اللاذقية، واصل العائلة من لواء اسكندرون، الذي تحتله تركيا.
الطريف أكثر، ان هناك من حاول البحث (على ضوء الشمعة والفتيلة) كما يقول المثل عندنا، لإيجاد اي معلومة فيها جبران خاطر للمصدومين، واخيرا تحقق الأمر (حسب معلومات لم اتأكد منها وستسرني كثيرا ان صدقت) بأن حماته من ال الدردري، العائلة الشامية الأصيلة، وعندها بدا البعض يشدو وان على الناشف، وبدون موسيقا، او يقرع طبوله، ويترغل مزموره على الخفيف.
حقيقة أضحكني هذا الجدل العبثي، كما اضحكتني مقدمة تحقيق مجلة العربي، عن شعب الهونزا.
فمن يقرا تاريخ الشاب الطموح زهران ممداني، يرى انه عالمي الهوية، فأبواه هنديان من أب مسلم شيعي، وأم هندوسية، وهو ولد في العاصمة الأوغندية كمبالا، ويحمل جنسيتها، ثم انتقل وهو في الخامسة من عمره، الي مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا، وعندما بلغ السابعة من عمره، هاجر مع ابويه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والى نيويورك تحديدا، وهناك بدا يشق طريقه في الحياة، وحصل على شهادته الجامعية، ودخل إلى عالم السياسة، ولم يحصل على جنسيته الأمريكية، الا في العام 2018، اي قبل اقل سبع سنوات فقط، كانت كافية ليفوز فيها بمنصب عمدة عاصمة العالم.
واضح جدا من مسيرته هذه، بأنه كان مشغولا منذ طفولته، ببناء شخصيته، والتعرف على العالم الخارجي المتبدل من حوله، ولم يكن عنده الوقت، للانشغال بحروب داحس والغبراء، وسقيفة بني ساعدة، وحروب علي ومعاوية، وصفين والجمل، ولا للانبهار بإيران الشيعي، ولا السعودية وتركيا السنية، ولا ببلاد الشام المظلة بأجنحة الملائكة، وربما من حسن حظه، ان قدره لم يأخذه إلى هذه البلدان، في هذا الزمن البائس.
والى الفرحين والمصدومين، من هنا وهناك، أستطيع التأكيد، بأن ممداني لم يعرف بكل هذا الجدل، والحروب الفيسبوكية، حول شخصيته وهويته الدينية، لأنه لم يكن لها أي تأثير في رحلته الناجحة في الحياة، وإنما جل اهتمامه سيكون لخدمة المجتمع الذي انتخبه، بناء على البرنامج الذي قدمه لهم، واقتنعوا به، وجعله يفوز على عتاة من الساسة الأمريكيين، بما فيهم الرئيس ترامب، الذي وقف ضده بكل ما يملك من قوة.
وحتى تأييده لغزة وتضحيات شعبها، لم يكن لأنه مسلم، وإنما لملامسته العمرية لجيل ((z الذي تظاهر في المدن والجامعات الأمريكية والأوروبية، وفي معظم دول العالم (ماعدا العربية والإسلامية) ضد الوحشية الإسرائيلية، وحتى تهديده باعتقال نتنياهو، إذا ما جاء إلى نيويورك، فهو في ذلك مثله مثل العشرات وربما المئات من عمداء المدن الأمريكية والأوروبية، الذين هددوا باتخاذ نفس الإجراء.
لكن الأهم – ولايزال الحديث موجه للفرحين والمصدومين بهويته الإسلامية – بأن هذه الهوية لن تأخذ اي حيز من اهتمامه، لان ولاءه لن يكون باي شكل من الاشكال لها – حتى ولو افترضنا جدلا بأنه متدين – لأن انتماءه الديني سيكون مقتصراً على حريته الشخصية، ومن يدري؟! فربما تأثير أمه الهندوسية عليه، أكثر من أبيه الشيعي، أما ولاءه الحقيقي، فسيكون للوطن الذي احتضنه، واعطاه جنسيته بسرعة، ولم يحتج للتأكيد بأن جَدَّ جَدهِ سكن فيها، حتى يستحق جنسيتها، كما يحدث عندنا، كما سيكون ولاءه للدستور الذي أعطاه الحق، بأن يكون بهذا المنصب الرفيع، رغم عمره الصغير، وانه لم يمض على نيله الجنسية الأمريكية، الا منذ سبع سنوات فقط.
ما اتمناه ان يعطينا مسار حياة ممداني دروسا بليغة، بدل ذلك الجدل السخيف، حول هويته الدينية، وخاصة كيف يكون ولاء الانسان للوطن الذي يحتضنه، ويؤمن له الحياة الكريمة، وللدستور الذي يعطيه كامل حقوقه كمواطن، يعيش في بلده بكرامة، وبما عليه من واجبات وحقوق.
أحمد رفعت يوسف


















Discussion about this post