الانسجام النصي القصصي في الثلاثيات القصصية القصيرةجدا ” انتهاك ،نفيير، ذهول أساطيري ”
للكاتبة الاعلامية “الهام عيسى”
إن المتمعن في الثلاثيات الققجية للكاتبة القاصة والشاعرة الاعلامية إلهام عيسى ليلحظ بجلاء الانسجام والتماسك النصي القصصي بين أجزائها وهذا ما يمنحها -القصص -وسم الأدبية أوالجمالية أوالنصية .
إن مصطلح الانسجام ارتبط باللسانيات الحديثة ،أو لسانيات النص،وأصبح معيارا جوهريا من المعايير الدالة على نصية النص وعلى تماسك النصوص، باعتبار النص بنية متكاملة ونسيج وشيج وكلي على المستوى الشكلي ( اللغوي) ويسمى الاتساق ،وعلى المستوى الموضوعاتي ( الدلالي) وهو ما يسمى بالانسجام.
ويعد مصطلح الانسجام من المصطلحات التي عرفت اختلافا وتباينا وهذا نتيجة الترجمة وعدم إيجاد مصطلح عربي قارّ يقابل المصطلح الأجنبي (coherence) ،فهناك من ترجمه بالالتحام،وهناك من اسماه بالتشاكل،وهناك من اصطلح عليه التناسب، التقارن ،التناسق،وهناك من اصطلح عليه الحبك، ولئن تعددت المصطلحات لغة أواصطلاحا، فتبقى المفاهيم تؤدي دلالة واحدة تقارب معنى التماسك والترابط.
يعرف محمد خطابي الانسجام اصطلاحا على أنه” الطريقة التي يتم بها ربط الأفكار داخل النص”
أما النص في اصطلاح النقاد كما عرفه سعيد يقطين” بنية دلالية تنتجها ذات ( فردية أو جماعية) ضمن بنية نصية منتجة،وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعية”
ويرى محمد مفتاح أن النص” وحدات لغوية طبيعية منضدة،متسقة منسجمة”
وبما أن الثلاثيات الققجية هي عبارة عن خطابات ونصوص سردية منسجمة فيما بينها مكونة بذلك بناء قصصي واحد ،فقد رأينا أنه من الأهمية بمكان استقراء بعض آليات الانسجام النصي القصصي المتجلية فيها
السياق: تظهرالثلاثيات كبنية متماسكة،وليدة عدّة سياقات أو خلفيات مرجعية جعلت منها نصا واحدا وكلا متكاملا، ما يدفع بالقارئ من أجل فهم النص إلى التفسيروالتأويل وكشف تلك السياقات و استثمار تجاربه وتوظيف مخزونه المعرفي لاظهار الظروف والمواقف والأحداث المحيطة بالنص( المناسبة/ المقام).
ولأن اللغة ظاهرة اجتماعية،فهي تتأثر بالمجتمع، فإن الكاتبة عبّرت عن تلك المواقف والظروف وأحوال ومناسبات كتابتها بلغة السرد القصصي ونظم الثلاثيات الققجية وهذا دليل على فعل الانسجام النصي، وتمرير رسالة منها للمتلقي في سياقات مختلفة ،وهنا تبرز القصدية والغائية المتمثلة في التأثير على المتلقي ، بغية التفاعل مع النص،وتحريك المشاعر نحو قضية محورية وجوهرية،ومن هنا تنتج العلاقة التشاركية والتفاعلية بين المرسل والنص والمتلقي ويصبح هذا الأخيرفاعلا ومصاحبا للنص بالكشف عن بنياته العميقة بواسع ثقافة ومرجعية وسابق معرفة بالظروف المحيطةوالعوامل السائدة ليحسن به تفسير وتأويل وتحليل النص من زوايا متعددة.
وحدة الموضوع: إن المتأمل في الثلاثيات ليجد أنها تنضوي تحت موضوع رئيس أو التيمة الكبرى وهو قضية الوطن الموجوع/ حرب غزة/ طوفان الأقصى، هذا الموضوع هو الاطار المحدد للثلاثيات الجزئية ثم تأتي تيمات أخرى ثانوية كروافد للموضوع الرئيس ومنها ( الحزن ،الاغتراب،المقاوم،الجلاد،الشوق،الموت……..)
كلها تتجانس في علاقات دلالية منظمة،أحداث مرتبة،ارتبطت فيه بالشخصيات والأزمنة والأمكنة،جعلت من النص قالبا منسجما ومتماسكا،وكأن الثلاثيات سلسلة حلقات محكمة الربط،كل ثلاثية متصلة بالأخرى ،فتأتي تارة مجملة لتفصّل أو مفصلة لتجمل ،لتتضح الدلالة ويسهل التأويل والاستدلال، ويتحقق الانسجام والتماسك ويحدث الفهم والافهام لدى القارئ.
عناوين الثلاثيات: فالعنوان باعتباره العتبة الأولى للقصة ،فهو كذلك يعدّ نصا آخر لما يحمله من مدلولات مضامينية وضمنية، فالعناوين الرئيسية للثلاثيات مترابطة ومنسجمة مع العناوين الفرعية ،وكأنها تشي للقارئ بتماسك دلالي ،علاقة السابق باللاحق،موضوع رئيسي تتفرع منه موضوعات جزئية،تحكمها علاقات مترابطة بين متتاليات عنوانية جعلت من النصوص بنية منتظمة ،متحدة،متسلسلة تفتح المجال لقراءات متعددة،والفهم على عدة مستويات كما تناثرت على فضاءات مكانية وزمانية وشخصيات تتفاعل عبر مدار لغوي( الققجية) يتغير بتغير الأحداث والظروف ، وتغير مقصدية الكاتبة من سرد القصة،سواء كانت صريحة أو ضمنية ،ظاهرة أم مضمرة،وهذا ما تتميز به الققجية من ايجاز لغوي،وتكثيف دلالي،وعمق رمزي .
فالعنوان بقدر ما يشدّنا ،وبقدر ما يقذف في نفوسنا من حيرة وتساؤل، بقدر ما يذهلنا لما له من سمات دلالية،وكأنه يختزل دلالات النص فيه، ومن هنا يتجلى التماسك الدلالي للقصص الثلاثيات.
انسجام الشخصيات: يكاد يكون تكرار الشخصيات واحدا في جل القصص،بل نكاد نجزم أنهاثابتة ذكرت على خط مستقيم مرتبة كالآتي: نساء غزة ،أطفال غزة،رجال غزة وهو ما صرحت به عناوين الثلاثية الققجية ” نفيير” ،هي شخصيات ثلاث ( الطفل ،الأم، الأب)، جسدتها في مشاهد متأزمة ،صورت ضياع الفرد،انكسار ،انتهاك،اضطهاد،هزيمة،قهر،جوع،موت……..
هذه الشخصيات تمثل في الواقع التماسك العائلي،والتكوين الأسري، أهم الدعائم التي يرتكز عليهم وجود الفرد و أمله في الحياة ،فلامعنى للوطن من دونهم، باعتبار الأسرة هي النواة واللبنة الأولى لبناء المجتمع ،فمتى كان التماسك بين أفراد الأسرة،كانت الاستمرارية وكانت للحياة نكهة وللوجود معنى، كما ذكرت الشخصيات بالتلميح باستخدام أدوات الإحالة والإشارة إلى ضمائر: المخاطب والغائب والمتكلم( المذكر والمؤنث المفرد والجمع) .
هذا التواتر للشخصيات حقق التماسك والانسجام النصي وبدت القصص كأنها قصة واحدة متماسكة.
الأحداث: هناك انسجام وتعالق الأحداث ببعضها البعض،،في انتظام محكم، منظمة الأفكار، متسلسلة الترتيب،منسجمة التركيب، متناسقة الشخصيات والأحداث،وكانت هذه الأخيرة متغيرة ،تدور في فلك على محور دوراني ،بمعنى الشخصيات واحدة ،لكن الأحداث المرتبطة بها متحولة،ومتجددة،ومتغيرة بتغير الوضع والمقام،هذه الأحداث شكلت من الثلاثيات بناء منسجماونسيجا متينا تعاضدت وتلاحمت نصيّا وكأنها تسير على نسق واحد ،مع قوة الحبك وصلابة السبك وبراعة لغو
تسير على نسق واحد ،مع قوة الحبك وصلابة السبك وبراعة لغوية وبلاغية،تنّم عن كاتبة بارعة وشخصية صلدة،ومتماسكة،ومؤثرة .
هذه الأحداث هي تصوير لواقع مرّ ألّم أو قد يلّم بوطن موجوع،موبوء بالظلم والاستبداد والاستلاب،والخذلان، وتجسيد حي لمشاهد الإنسان بكل مظاهر صوره،المقهور،المضطهد،المقاوم،الحزين،المنكسر،..
وما يتبع ذلك من ألم فقد الوطن، العائلة،الأحباب،الجيران،انتهاك،دمارشامل،إبادة جماعية،خيبات،نزوح،حيرة،انكسار،مصير مجهول،عودة ضالة،معاناة……وكلها أحداث مأساوية تؤطرها الثلاثيات الققجية تندرج تحت إطار واحد وموضوع واحد وهو المقاومة والصراع مع الجلاد من أجل البقاء وكلها دلالات تحرك وجدان المتلقي، وتجعلنا نتلمس حجم المعاناة وكمية الانفعالات والصراع الداخلي والقلق النفسي الذي تعيشه الكاتبة ككل مواطن غيور على الدم والوطن والأرض.
الانسجام اللغوي:جاءت القصص حبلى بألفاظ مشحونة بالحزن والألم والضياع والموت في قالب لغوي مشكلة شبكة علاقات متداخلة تندرج ضمن حقول دلالية،ولأن الموقف يستدعي استحضار رصيد لغوي كبير، فقد ساهم في تحقيق سبك معجمي وتماسك دلالي وانسجام قصصي للثلاثيات.
إن كثافة الألفاظ وتكرارها وتواترها في أغلب القصص وتوزعها عبر حقول دلالية،والثنائيات الضدية،واستبدال كلمات بأخرى ،تجعلنا ندرك من الوهلة الأولى أن هناك عملية انتقاء وبناء وتركيب لسلسلة من الألفاظ تتناسب وتتوافق مع المعاني من بداية القصة إلى نهايتها،وهذا ما يضمن للنص استمراريته، وانسجام الفكرةوالموضوع والمفردة وبالتالي تمكين المتلقي من فهمه وفك تشفيراته، وسبر اغواره،وتقصي معانيه.
الانجام التناصي : إن تماسك والتحام نص مع نصوص أخرى ،وترابط الجمل سابقاتها بلاحقاتها،وتوافر النعوت والاوصاف،وكثرة الصور البيانية والبديعية،ودقة التصوير الحسي لمشاهد واقعية،جعلت من النصوص الثلاثيةالققجية بنية دلالية موحدة ومنسجمة ومتراصة دلاليا ومعنويا.
انسجام البناء الفني : لعل البناء أو الهيكل الذي عهدناه في الققجية هو نظم الثلاثية ولعله فعل قصد فني من الكاتبة ،وهو نوع من التجديد،وكسر قيود النمطية الكلاسيكية ( البناء التقليدي )في البناء القصصي، و كذلك عنونة النصوص عادة ماتكون في البداية ولكن الكاتبة أرادت لها أن تكون في نهاية القصة على غرار الثلاثية” نفيير”.
إن البناء الفني والشكلي للقصص قد يعكس بناء القصة داخليا ودلاليا،و ينتج عن ذلك التعالق والتوافق اللغوي والفني والشكلي والدلالي انسجاما واتساقا أدبيا يرتقي بالعمل الفني إلى مستوى الإبداع والجمالية النصية .
تجربة سردية متجددة بريشة كاتبة ألمعية،وقاصة حاذقة ،تجعلنا في كل ثلاثية قصصية في حالة ذهول، نحاول أن نتماسك ونلملم ما تبقى من شتات أفكارنا .
بقلم وردة/ ع

















Discussion about this post