في 9 كانون الأول/ديسمبر 2010، حضرت إلى باريس، لتغطية زيارة الرئيس المخلوع بشار الأسد لفرنسا، وهي الزيارة التي كانت مفصلية في تاريخ سورية والمنطقة، وفي الصراع (على.. وفي) سورية.
من عادتي عندما أعرف أنني سأزور بلداً، أحاول الاطلاع على ما أستطيع عن جغرافية البلد، وأحاول التركيز على الجانب المتعلق بزيارتي.
ومن حسن حظي، أنني وقعت على معلومات، تتحدث عن ترتيبات البروتوكول الرئاسي الفرنسي، عند استقبال الرؤساء في قصر الإليزيه.
من جملة ما قرأت، كيف يتصرف الرئيس الفرنسي عند استقبال زائر رسمي، وهو أنه يقف بانتظار ضيفه على رأس درج الإليزيه، المكون من سبع درجات، وعند وصول الضيف ونزوله من السيارة، ويهم بصعود الدرج، ينزل الرئيس الفرنسي عدة درجات، ويسلم على ضيفه في منتصف الدرج، ثم يصعد معه إلى الأعلى، وهناك يقفان للسلام وتبادل كلمات المجاملة والترحيب، أمام الصحفيين، وكاميرات وعدسات المصورين، ثم يصطحبه إلى الداخل.
في بعض اختراقات البروتوكول، قد ينزل الرئيس كامل الدرجات، إذا كان للضيف مكانة أو اعتبار خاص عند الإليزيه.
بالتأكيد دائماً تكون لغة الجسد، أحد أهم المؤشرات، التي تعطي الانطباع العام عن الزيارة.
حتى نفهم كامل الأجواء، نشير إلى أن الزيارة كان لها أهمية وأسباب وأهداف جيوسياسية، أبعد من العلاقات السورية الفرنسية بكثير، وفي مقدمتها، أن باريس كانت تعمل على استعادة شيء من مكانة فرنسا ونفوذها، والتي بدأت تخسره وبشكل متسارع، ولذلك طرحت مشروعها “الاتحاد من أجل المتوسط” كبديل لـ “عملية برشلونة” وهو مشروع الرئيس ساركوزي شخصياً، وكان يستهدف تعزيز التعاون بين دول الاتحاد الأوروبي، و16 دولة من جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، ومن الطبيعي أن مثل هذا المشروع، في حوض المتوسط، لا يمكن أن يتم بدون سورية، التي تشكل مفتاح منطقة شرق المتوسط كلها، (أياً يكن حاكمها) وهو الأمر الذي (أجبر) ساركوزي، ليكون عراب إخراج سورية من حالة الحصار التي فرضت عليها، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، في 14 شباط/فبراير عام 2005، وحرب يوينو/حزيران عام 2006، ودعوة الرئيس المخلوع، للمشاركة في القمة المتوسطية، في 13 يوليو/تموز من عام 2008، وهي القمة التي شهدت محاولة (مدروسة بدقة) لإجراء مصافحة، بين رئيس حكومة الكيان الصهيوني إيهود أولمرت والأسد، لكنها فشلت، وأصبحت تفاصيلها معروفة.
لهذه الأسباب كلها، كانت زيارة باريس الثانية (أكثر وأهم وأبعد) من أنها مجرد زيارة رسمية لباريس، ولذلك كانت هناك نشاطات وبرامج خارج المهمة الرسمية للزيارة، لكن ما عرفناه فيما بعد، بأن كل هذه الترتيبات، كانت مرتبطة بأشياء تجري ورا الكواليس.
بالعودة إلى وقائع الزيارة.. وعلى غير برنامج البروتوكول، كان الرئيس المخلوع، سيصل إلى الإليزيه ويدخل من بابه الرئيسي، مشياً على الأقدام – وليس بالسيارة كما جرت العادة – لأنه كان قد قرر، أن يقطع المسافة بين الفندق والإليزيه، مشياً على الأقدام، للتجول والاطلاع.
عند لحظة وصوله إلى بوابة القصر، ظهر الرئيس ساركوزي من داخل القصر، ووقف كما هي العادة عند أعلى الدرج، لكن ما كان لافتاً لمن راقب لغة الجسد عنده، أنه كان متبرماً وملولاً، وبشكل واضح، وهو في لحظات الانتظار.
تأكد لي ذلك، عندما وصل الرئيس المخلوع، وبدأ يصعد درجات الإليزيه، لكن الرئيس ساركوزي لم ينزل الدرجات حتى منتصفها كما هي العادة، وانتظره حتى صعد الدرجات كلها، واستقبله في أعلى الدرج، حينها قلت لصديق صحفي كان بجانبي، الزيارة فاشلة.
استغرب الصديق رأيي وضحك وقال لي.. يا رجل.. كيف تحكم على الزيارة بأنها فاشلة، والمحادثات الرسمية لم تبدأ بعد.
قلت له هذا رأيي، وتذكره والأيام بيننا.
وفعلاً لم تكد تمضي أيام، حتى بدأنا نقرأ بأن كواليس الزيارة، كانت أهم مما ظهر منها على الإعلام.. وأهم ما في كواليسها، علمنا أن أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني، حضر إلى باريس بشكل غير معلن، وجرت محاولات كثيرة لإقناع الرئيس المخلوع، بفكرة تمرير خط الغاز القطري عبر سورية، والذي كان سيغير كثيراً من خارطة الصراع الجيوسياسي الإقليمي والدولي، التي جرت بعد ذلك، لكن كل شيء انتهى في كواليس قمة باريس الثانية، وكان ذلك الفشل، الإشارة لإدخال سورية دائرة النار، والتي بدأت بعد القمة بثلاثة أشهر فقط.
ومن غريب الصدف، أن قمة باريس كانت في 9 كانون الأول/ديسمبر عام 2010، وسقوط المخلوع تم في 8 كانون الأول/ديسمبر عام 2024، أي أربعة عشر عاماً بالتمام والكمال وباليوم، كانت كافية لإحراق سورية وتدميرها.
فقط أريد من الأصدقاء، الانتباه كم هو مهم وعظيم موقع وموقف سورية، وهو ما يجعلها بالفعل مفتاح المنطقة، ويشكل أحد ثلاثة من أركان سورية (الشعب والجيش والموقع) ولهذا حديث آخر.
أحمد رفعت يوسف


















Discussion about this post