أرهقني الصراع يا روح
كل شيء صار كغيمٍ ثقيلٍ يحجب الطريق.
كلما حاولتُ تغيير واقعي، أعادني الواقع إلى مكاني ذاته.
كأن الحياة تختبر صبري، أو تسخر من اندفاعي.
قولي لي… هل القبول هو أن أرفع الراية وأستسلم؟
الروح:
لا القبول ليس هرباً.
القبول لحظة وعيٍ يتوقّف فيها المرء عن محاربة الموج، ويتعلم أن ينساب معه بدل أن يغرق في عناده.
الاستسلام يطفئ الضوء في الداخل، أما التسليم، فهو ثقةٌ هادئة بأن النهر، مهما التوى، يعرف طريقه إلى البحر.
العقل:
لكن كيف أقبل واقعاً يؤلمني؟
خسارة، خذلان، حبٌ اختفى، تعبٌ بلا ثمر…
كيف لا يكون القبول ضعفاً؟
الروح:
الضعف هو أن تنكر وجعك…
لا أن تعترف به.
القبول أن تقول لنفسك:
هذا ما كان… وأنا أراه كما هو.
ليس لأنك راضٍ عنه،
بل لأنك ترفض أن تعيش أعمى بعد الآن.
القبول صدقٌ… لا سقوط.
العقل:
أحياناً أشعر أن القبول يشبه انكسار الكرامة…
كأنه مطالبة بأن أرضى بالظلم،
أو أحنّي رأسي للهزيمة.
الروح:
أبداً…
القبول لا يبرّر الظلم، إنما يحرّرك من قبضته.
حين تقاوم ما يحدث خارجك بكل قوتك، يتحول ما يحدث إلى سيّد داخلك.
أما حين تقول:
أرى ما حدث، ولن أسمح له أن يستعبدني.
هناك تبدأ القوة الحقيقية.
القبول ليس طأطأة رأس…
هو وقفة هادئة تُشبه صلاة.
العقل:
ما الفرق بين التسليم والاستسلام حقاً؟
الكلمتان تتشابهان، لكن بينهما مسافة أشعر بها ولا أفهمها.
الروح:
الاستسلام صوت الخوف:
انتهيت، دعوني أختفي.
أما التسليم فهو صوت الإيمان:
لستُ أتحكم بكل شيء، لكنني أثق أن كل شيء يحمل معنى.
الاستسلام يطفئ الحركة…
والتسليم يخلق تناغماً مع مجرى الوجود.
العقل:
وحين أقبل، ماذا يحدث للوجع؟
هل ينام؟ هل يتلاشى؟
الروح:
لا ينام ولا يتلاشى.
لكنه يتحول.
فالوجع حين يُرى بوعي، يتحوّل من عدوٍ إلى معلّم.
يُشير إلى مكانٍ داخلك يحتاج حضناً لا حكماً.
القبول يذيب الألم، لأنه يناديه باسمه بدل أن يهرب منه.
العقل:
وماذا أفعل عملياً؟
كيف أبدأ بالقبول؟
كلما حاولت، شعرت بأن شيئاً داخلي يقاوم.
الروح:
ابدأ من الجسد…
خُذ نفساً عميقاً.
أنصت: أين يسكن الألم؟
في صدرك؟ بطنك؟ حلقك؟
ضع يدك عليه واسأله بهدوء:
ماذا تريد أن تخبرني؟
قد تسمع صوتاً صغيراً يقول:
خفت…
أو لم يُسمعني أحد…
وهنا بالضبط يبدأ القبول:
عندما تُصغي بدل أن تُهاجم.
العقل:
هل القبول فكرة أم إحساس؟
الروح:
القبول فكرة مغلّفة بإحساس عميق.
هو نوع من الإدراك يتبعه شعور…
والإحساس هو الشفاء.
القبول أن تشعر بأنك موجود الآن،
رغم كل ما فقدته،
ورغم كل ما لم يحدث.
القبول… أن تتنفس، وتسمع، وتسمح…
دون أن تهرب.
أن تترك دموعك تمرّ دون محاكمة،
وجرحك دون تفسير…
فقط أن تكون معه، بلطف.
العقل:
وإن عاد الوجع من جديد؟
أخاف أن أشعر أني عدت إلى نقطة الصفر.
الروح:
لا وجود لنقطة الصفر.
القبول ليس قراراً…
بل عادة روحية.
كل عودة للوجع ليست سقوطاً، بل عمقاً جديداً.
كل مرة تعود، ترى الألم من زاوية أكثر هدوءاً.
نحن نتوسع في دوائر، وكل دائرة أوسع وأرحب من سابقتها.
العقل (بصوت منخفض):
إذن… حين أقبل، لا يعني أنني انتهيت…
بل أنني بدأت أفهم.
الروح:
بالضبط…
القبول ولادة جديدة…
ولادة ذاتك الحرة من رماد التوقع والسيطرة.
ومن هناك تبدأ ترى أن الحياة لم تكن ضدك، كانت فقط تدعوك لتنضج.
العقل:
والتسليم لله…
أين مكانه في هذا المشهد؟
الروح:
هو قمّة القبول.
أن تصل إلى لحظة تقول فيها:
يا رب… لم أعد أفهم، لكنني أثق.
ليس ضعفاً…
بل ذروة الإدراك.
التسليم ليس تنازلاً عن الاختيار،
بل فهماً أن القوة ليست كلها بيدك،
وأن النور في داخلك
لا يُطفئه حتى ليلٌ طويل.
العقل:
فهمت…
القبول ليس نهاية الصراع، بل تحوّله إلى سلام.
الروح:
تماماً يا عقل…
القبول ليس سكوناً…
بل رقصٌ خفيف مع الواقع
من دون محاولة كسره.
أن تقف في قلب العاصفة، وأنت تعرف أن في مركزها…
سكوناً خُلق لك وحدك.
Discussion about this post