يا روح… شيءٌ بلا ملامح يلاحقني منذ زمن.
يمدّ أصابعه من الماضي ويهمس:
{كان يجب أن تكون أفضل، كان يجب ألا تخطئ}.
هذا هو الذنب… أليس كذلك؟
الروح:
لا… هذا ليس الذنب، إنه اللوم الذي اختبأ بملابس الذنب.
الذنب الحقيقي يا رفيقي، لا يصرخ… بل يضيء.
العقل:
لكنّي أحسّ أن الذنب يلاحقني كظلّ أثقل منّي، يعود كلما حاولت أن أغفر لنفسي، صوتٌ كالنصل يلتهم قلبي ببطء.
الروح:
الذنب ليس عدوّك، هو ضمير تجاوز حدوده.
جاء ليوقظك، لكن إن طال مقامه، صار سجناً.
العقل:
أحمل ذنوباً كثيرة:
صمتي حين كان يجب أن أتكلم، كلامي حين كان يجب أن أصمت،
ذنب أني سمحت للناس أن يعبروا فوقي، وذنب أني عبرت فوق نفسي.
وكلما تغيّرت، تكلّم شيء داخلي وقال: التغيير متأخر، والخراب قد قع.
فكيف أغفر لنفسي وبعض الضرر فعلاً لا يُصلّح؟
الروح:
الذنب الذي يهمس “فات الأوان” لا يأتي من ضميرك، بل من خوفك…
خوف فقدان الصورة المثالية التي رسمتها لنفسك.
لكن الروح لا تطلب منك الكمال، تطلب منك الصدق.
الصدق مع لحظة ضعفك، ومع أنك لم تكن تعرف أكثر في ذلك الوقت.
والغفران ليس إصلاح الماضي، بل إصلاح وعيك به.
قل لنفسك: كنتَ تحاول، ولم تكن تعرف، كنت تتعلم، ولم تكن ترى.
ثم دع الصمت يكمل الشفاء.
العقل:
هل هناك ذنب واعٍ وذنب غير واعٍ؟
الروح:
نعم.
الذنب الواعي : ألمٌ واضح، قصير، مثل ألم الجرح وقت التعقيم، مؤقت لكن ضروري، يدفعك للمسؤولية والتقدم.
الذنب غير الواعي : ألمٌ يستوطنك حتى يصبح عادة، يتغذى على فكرة: أنا سيء، لا أستحق الصفح.
العقل:
لكن كيف أتحمّل المسؤولية دون أن أكره نفسي؟ ما الفرق بين الوعي والجلد؟
الروح:
الوعي يضع يده على كتفك ويقول: أنا فعلت هذا، والآن أفهم نفسي أكثر.
أما الجلد فيصفعك ويقول: أنا سيّئ لأني فعلت هذا.
الأول يفتح باباً، الثاني يغلقه.
الوعي لا يُنكر الألم ولا يبرر الخطأ، بل يعيده إلى موضعه الصحيح:
درسٌ في النضج، لا حكمٌ بالإعدام.
العقل:
لا أعرف أي ذنب أحمله، هو يوجعني، يؤلمني، لكني لا أراه.
هل أنا مذنب أم مسجون؟
الروح:
أنت لست مذنباً، أنت عالِق.
والعالق لا يحتاج حكماً، بل يداً تمتد إليه.
عُقدتك في الخلط بين الذنب واللّوم.
اللّوم سوط يجلدك، أما الذنب الواعي، فهو معلّم.
العقل:
وكيف أميّز بينهما؟
الروح:
إذا وجدت نفسك تصرخ في داخلك: لماذا فعلت؟ … فهذا لوم.
وإذا سألت نفسك بهدوء: كيف يمكنني أن أكون أفضل مما كنت؟ … فهذا وعي.
العقل (بصوت منكسر):
لكن بعض الذنوب لا تأتي من الفعل، بل من النجاة.
تركتُ علاقة كانت تؤذيني، لكنّي شعرت أني خنت.
تقدّمت خطوة، فشعرت أنني تركت الآخرين خلفي.
الروح:
هذا هو ذنب النور.
حين تشرق في مكانٍ أطفأت فيه الظلال كل شيء، تشعر بالخيانة لأنك كنت الوحيد الذي نجا.
لكن الحق؟ أنت لم تخُن أحداً…
أنت فقط لم تمت مثلهم.
وهذا ليس ذنبك.
العقل:
كيف أعرف أني غفرت لنفسي حقاً؟
الروح:
حين تتذكّر دون أن يعود الألم، حين يصبح الحدث صفحةً فهمتها لا شوكةً في صدرك.
الغفران ليس لحظة، بل مسار: صدق، ثم بكاء يطهّر، ثم قبول، ثم امتنان لأنك عبرت الطريق ولم تترك نفسك وحيدة.
العقل:
هل يمكن أن يحدث الغفران، حتى لو أنا الذي جرح؟
الروح:
نعم.
الغفران ليس تبرئة، بل عبور، إنه لا يمحو الماضي، بل يعيده إلى موضعه الطبيعي.
العقل:
والناس الذين حملوني ذنبهم؟
الذين اتهموني، أو جعلوني أصدق أنني السبب؟
الروح:
حرّرهم من المحكمة الداخلية.
الذنب الموروث أثقل من ذنب الفعل.
اسأل نفسك: هل هذا الألم فعلاً لي؟
إن لم يكن، ارمه، فالوعي لا يحمل ما ليس له.
العقل:
أشعر كأنني أتنفّس من جديد، ليس لأني أصبحت بلا خطأ، بل لأني توقفت عن معاقبة نفسي باسم الطهارة.
الروح:
هذا هو الغفران الحقيقي، وهكذا يبدأ الشفاء…
حين تعود إنساناً، لا قاضياً على إنسانيتك.
العقل:
هذا يعني أن الذنب ليس لعنة، بل دعوة للمصالحة.
الروح:
تماماً، كل ذنب وُجد ليقودك إلى رحمة أعمق.
وحين تتعلّم أن ترى خطأك كمرآة للنمو، تصير كل لحظة سقوط صلاة خفية نحو الوعي.
Discussion about this post