كتب رياض الفرطوسي
في لحظةٍ ما من العمر، يقف الإنسان كمن يقف على حافة جسرٍ معلق بين ضفتين: ضفةٍ يعرفها حدَّ الملل، وأخرى لا يعرف عنها سوى أنها ممكنة. وظيفة جديدة تلوّح من بعيد، فكرة زواج تُربك القلب، طفل يُعيد ترتيب الحياة من جذورها، طريق دراسة، هجرة، أو حتى قرار بالبقاء كما نحن… لحظات تبدو عادية في ظاهرها، لكنها في العمق زلازل صغيرة تُعيد تشكيل الخرائط الداخلية للروح.
العلم يقول لنا، بلا مجاملة، إننا نُبالغ كثيراً حين نظن أن القرار وليد العقل وحده. ما يحدث داخل الرأس لحظة الاختيار أقرب إلى معركة صامتة بين الذاكرة والعاطفة، بين الخوف والرغبة، بين ما تربّينا عليه وما نحلم أن نكونه. الدماغ، في تلك اللحظة، ليس قاضياً عادلًا بقدر ما هو ساحة مزدحمة بالإشارات المتضاربة.
يشرح علماء الأعصاب أن مراكز التخطيط في المقدمة من الدماغ لا تعمل وحدها، بل تتشابك مع مناطق المشاعر كأصابع متداخلة. الخلل البسيط في هذا التوازن قد يصنع منا متسرعاً يندم سريعاً، أو متردداً يدفن عمره في الانتظار. القرار، ببساطة، ليس معادلة رياضية، بل وصفة عاطفية معقّدة.
وحين يدخل التوتر على الخط، يصبح المشهد أكثر ارتباكاً. الخوف يشعل أضواء الطوارئ في الدماغ، فيُعيد برمجة الأولويات: السلامة قبل الحلم، والثبات قبل المغامرة. لهذا يتمسك كثيرون بوظائف تسرق أعمارهم، أو بعلاقات تُنهك أرواحهم، فقط لأن المجهول، مهما بدا واعداً، يظل أكثر رعباً من ألمٍ اعتادوه. منطق البسطاء هنا قاسٍ وصادق: الذي نعرفه، ولو كان موجعاً، أرحم من الذي لا نعرفه.
العقل البشري، كما يصفه الباحثون، مُدرَّب بالفطرة على تجنُّب المجهول، لا على ملاحقة الاحتمال. التطور لا يُجيد الاستئذان، بل يقتحم حياتنا عبر قرارات جريئة، غالبًا ما تُتخذ ونحن نرتجف. المفارقة أن النجاة التي نبحث عنها في الأمان، لا تتحقق أحياناً إلا بالقفز خارجه.
تُظهر الصور الحديثة للدماغ أن القرار يمر بثلاث محطات: أولًا جمع المعلومات، ثم ميزان العاطفة الذي لا يرحم، وأخيراً لحظة التنفيذ التي تُنهي الجدل وتبدأ الحكاية. لكن المثير حقاً أن بعض العادات البسيطة، كالتأمل أو الكتابة اليومية، تُعيد ترتيب هذا المشهد من الداخل. من يكتب أفكاره، كأنه يفرغ الضجيج من رأسه على الورق، فيرى الطريق أقل تشويشاً، وأوضح ملامح.
تجارب حديثة أثبتت أن تدريباً قصيراً على التفكير التأملي قادر على تحسين جودة القرارات بشكل ملحوظ، كأن الإنسان حين يتعلم الإصغاء لنفسه بصدق، يخفّف من صراخه الداخلي، ويُحسن التمييز بين ما يخافه حقًا وما يتوهّمه.
ولم يعد القرار شأناً فردياً فقط. في زمن الأزمات، يتحول القرار إلى عدوى. الناس تقلّد قبل أن تفهم، وتخاف معًا قبل أن تسأل. في الجائحة، لم تكن الفيروسات وحدها هي التي تنتشر، بل القرارات أيضاً: هلعٌ جماعي، سلوكيات متشابهة، وخيارات تُتخذ بدافع الخوف لا بدافع المعرفة. القطيع يسير حين تخفت البوصلة.
وربما أجمل ما في هذه الحيرة المزمنة التي ترافق مفترقات الطرق، أنها دليل حياة. لو كنّا آلات، لاخترنا بلا تردد. لكننا نفكر، نتلعثم، نرتبك، نخاف، ثم نمد أيدينا إلى قرارٍ لا نعرف إن كان نجاة أم درساً مؤلماً. نحن نختار، لا لأننا نملك اليقين، بل لأننا لا نملك رفاهية البقاء خارج الاختيار.
وفي النهاية، قد نكسب، وقد نخسر، وقد نربح الخسارة نفسها على هيئة حكمة متأخرة. هكذا تسير الحياة: قرار وراء قرار، وخطوة تهزّ ما بعدها، وقلبٌ عراقيٌّ عنيد، يعرف جيداً أن الطريق، مهما اشتدّ ظلامه، لا يُفتح إلا بخطوة.

















Discussion about this post