تغيّر اللهجة الأمريكية: من نزع السلاح إلى احتوائه
بقلم: الدكتور محمد هاني هزيمة
كاتب سياسي وخبير استراتيجي
شكّل سلاح المقاومة في لبنان قضية محورية، قاربت في حساسيتها وتأثيرها ملفات التسلّح النووي وغير التقليدي، على الرغم من اختلاف الطبيعة والوظيفة. فقد اكتسب هذا السلاح شرعيته من المواقف الدولية، ومن القرار السياسي الداخلي المتمثل بالبيان الوزاري، إضافة إلى إجماع أكثرية القوى السياسية على الحاجة إليه في مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر، في ظلّ التفوق العسكري والسياسي للكيان الصهيوني، وغيابٍ شبه كامل للعدالة الدولية ومنظماتها، بعد إفراغها من مضمونها وتحريفها عن أهدافها، لصالح سيادة منطق القوة بدل منطق القانون.
في هذا السياق، أثبتت المقاومة، بسلاحها، أنها قوة صلبة قادرة على صناعة توازن ردعي شكّل، لعقود، أحد أعمدة الاستقرار النسبي في معادلة الصراع، وأساسًا في سياسة الردع الاستراتيجي. ورغم ذلك، بقي هذا السلاح هدفًا دائمًا للسياسة الخارجية الأمريكية، التي رفعت على مدى عقود شعار “نزع السلاح” باعتباره حلًا حاسمًا لمواجهة القوى الخارجة عن إرادتها، وتلك التي تراها عائقًا أمام مشروعها للهيمنة العالمية واستمرار الأحادية القطبية الأمريكية.
وقد تعاملت واشنطن مع كل من يعارض سياساتها بوصفه خارجًا عن “قواعد النظام الدولي”، أو متمرّدًا على “المجتمع الدولي” الذي صاغته وفق رؤيتها الاستعمارية الحديثة. وخلال العقود الثلاثة الماضية، كشفت السياسات الأمريكية قباحة هذا النهج وخطورة مشروعه على العالم بأسره، حيث فُرضت تحولات كبرى بدّلت موازين القوى الدولية، وصعد لاعبون جدد لا يخضعون لمنطق الردع الكلاسيكي.
أمام هذه التحولات، وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى مراجعة لغتها وأدواتها، فانتقل خطابها من المواجهة الصدامية إلى سياسة الاحتواء المدروس. وقد ظهر هذا التحول بوضوح على الساحة اللبنانية، حيث تغيّرت المقاربة الأمريكية تجاه سلاح المقاومة من الدعوة الصريحة إلى نزع السلاح، إلى محاولة احتوائه وإدارته، بعدما أثبت الواقع أن المعادلات الميدانية أقوى من الشعارات السياسية.
فبعد سنوات طويلة من اعتماد سياسة “الضغط الأقصى” التي تمثّلت في:
فرض عقوبات اقتصادية،
السعي إلى عزل سياسي،
وإطلاق تهديدات عسكرية مباشرة وغير مباشرة،
سعت واشنطن إلى ضرب كل القوى التي تعارض سياساتها، بدءًا من محاولات تفكيك برامج التسلّح لدول أو قوى تصفها بـ“المارقة”، وصولًا إلى استهداف سلاح المقاومة اللبنانية. غير أن هذه السياسة اصطدمت بوقائع مغايرة غيّرت قواعد اللعبة، حيث نجحت المقاومة في فرض معادلات ردع جديدة، وأدخلت لبنان، من حيث التأثير في القرار الدولي، إلى دائرة الفعل لا الهامش، نظرًا لحساسية موقعه ودور الكيان الإسرائيلي في مشروع السيطرة الأمريكي على المنطقة والعالم.
وتتلاقى هذه التجربة مع نماذج دولية أخرى، أبرزها كوريا الشمالية التي، رغم الحصار الخانق، امتلكت السلاح النووي وكرّست نفسها قوة ردع قائمة، وكذلك الجمهورية الإسلامية في إيران التي، على الرغم من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وسّعت قدراتها التخصيبية وأثبتت قدرتها على المناورة الاستراتيجية وفرض الوقائع.
أمام هذه الأمثلة، أدركت واشنطن أن شعار “نزع السلاح” لا يمكن فرضه دائمًا، ولا يغيّر المعادلات على الأرض ما لم يكن مقرونًا برؤية واقعية وبدائل عملية. ومن هنا، انتقلت من سياسة الإزالة إلى سياسة إدارة التهديد، عبر تجميده، وتحديد خطوطه الحمراء، ومنع تمدّده خارج سقوف معيّنة.
ويأتي هذا التحول في إطار البراغماتية التي تحكم السياسة الأمريكية، خصوصًا في ظلّ تخبط الإدارة الحالية، وفشلها في تحقيق أهدافها السياسية، وارتداد سياساتها سلبًا حتى على الداخل الأمريكي نفسه، بدل أن ترسم معالم قوة عالمية جديدة. وهو ما دفعها إلى محاولة احتواء قوى لطالما اعتبرتها خطرًا على مشروعها، بعدما تبيّن أن السيطرة عليها أو مواجهتها المباشرة باتت شبه مستحيلة.


















Discussion about this post