بقلم/عامر جاسم العيداني
بعد أكثر من عقدين على سقوط النظام السابق يطفو إلى السطح خطاب سياسي يبدو في ظاهره مختلفا عما اعتاده العراقيون ، حديث متزايد عن ضرورة حصر السلاح بيد الدولة واحترام هيبتها وعدم التلويح بالقوة ضد مؤسساتها إلى جانب دعوات صريحة للتخلي عن نظام المحاصصة والبدء بوضع خطط حقيقية لبناء الدولة واقتصادها.
هذا التحول في اللغة السياسية يثير سؤالاً مشروعا ، هل نحن أمام صحوة ضمير متأخرة لدى أحزاب حكمت البلاد طيلة 22 سنة أم أن الأمر لا يعدو كونه استجابة لضغوط داخلية وخارجية فرضت تغيير النبرة لا أكثر؟
منذ عام 2003 تشكل النظام السياسي على أساس المحاصصة الطائفية والحزبية التي قدمت حينها بوصفها ضمانة لتمثيل الجميع لكنها تحولت عمليا إلى آلية لتقاسم النفوذ والموارد وإضعاف مؤسسات الدولة. في ظل هذا النظام تمدد السلاح خارج إطار الدولة وتداخلت السياسة بالأجنحة المسلحة ما أفقد القانون هيبته وقيد أي محاولة جادة لبناء دولة حديثة ذات اقتصاد منتج.
اليوم حين تصدر الدعوات نفسها من القوى التي كانت جزءا أساسيا من تكريس هذا الواقع يصبح التشكيك مشروعا، فالعراقيون سمعوا على مدى سنوات طويلة شعارات مشابهة في مواسم الانتخابات أو عند اشتداد الأزمات دون أن تترجم إلى سياسات أو قرارات حاسمة. ولهذا فإن أي خطاب جديد لا يقاس بجمال مفرداته بل بمدى استعداده لمواجهة المصالح التي نشأت وترسخت داخل منظومة الحكم نفسها.
في المقابل لا يمكن عزل هذا التحول عن السياق العام الذي يعيشه العراق والمنطقة فإن الضغوط الاقتصادية المتزايدة وتراجع أسعار النفط في بعض الفترات وتضخم البطالة واتساع رقعة الفقر كلها عوامل جعلت استمرار النموذج القائم عبئا ثقيلا حتى على القوى المستفيدة منه، يضاف إلى ذلك ضغط الشارع الذي لم يعد يقبل بسهولة بمنطق السلاح المنفلت أو تبرير الفشل بالمؤامرات كما ظهر جليا في موجات الاحتجاج المتكررة.
أما العامل الخارجي فهو حاضر بقوة أيضا فالعراق بات مطالبا أكثر من أي وقت مضى بتقديم نفسه كدولة مستقرة قادرة على حماية الاستثمارات وضبط السلاح وبناء اقتصاد متوازن. ان المجتمع الدولي والمؤسسات المالية وحتى الشركاء الإقليميون يربطون أي دعم حقيقي بإصلاحات واضحة في مقدمتها تعزيز سلطة الدولة وإنهاء ازدواجية القرار الأمني والاقتصادي.
من هنا يمكن القول إن الخطاب الجديد هو نتاج تلاق بين ضغط الواقع الداخلي ومتطلبات الخارج أكثر مما هو انعكاس لمراجعة ذاتية عميقة، غير أن هذا لا يعني التقليل من أهميته فالتحول في اللغة قد يكون مقدمة لتحول في السياسات إذا ما توفرت الإرادة السياسية الحقيقية وجرى الانتقال من مرحلة الشعارات إلى مرحلة القرارات المؤلمة.
الاختبار الحقيقي لهذا الخطاب يكمن في الأفعال وهل ستتخذ خطوات واضحة لحصر السلاح بيد الدولة دون استثناءات؟ هل سيتم تفكيك منظومة المحاصصة عمليا عبر قوانين وممارسات عادلة؟ وهل ستطرح رؤية اقتصادية تتجاوز الريع النفطي نحو الإنتاج والاستثمار؟ دون ذلك سيبقى الخطاب مجرد محاولة لشراء الوقت وامتصاص الغضب.
في النهاية لا يهم العراقيين إن كانت الدوافع صحوة ضمير أم ضغطا خارجيا بقدر ما يهمهم أن يروا دولة تبنى فعلا لا تدار بالشعارات فبعد 22 سنة من التجارب القاسية لم يعد الشارع مستعدا لمنح ثقته مجانا بل ينتظر نتائج ملموسة تثبت أن هذا التحول ليس مجرد تغيير في اللهجة بل بداية مسار مختلف.


















Discussion about this post