كتب: سعيد فارس السعيد:
تنتشر أحيانًا تحليلات تفتقر إلى الحدّ الأدنى من المنهجية السياسية، وتقوم على اختزالٍ فاضحٍ لتعقيدات الصراعات الدولية، فتُسقط التاريخ، وتتجاهل الاقتصاد، وتغفل توازنات القوى، لتبني استنتاجاتها على منطقٍ طائفي بدائي، من نوع:
«إن “إسرائيل” تريد قائدًا سنيًا لأنها تبحث عن أهل البلد الحقيقيين».
مثل هذه الطروحات لا تُسيء إلى السياسة فحسب، بل تُسيء إلى العقل، وإلى الشعوب، وإلى فكرة الدولة الحديثة نفسها.
أولًا:
السياسة لا تُدار بالعقائد ولا بالإحصاءات الطائفية
الدول الكبرى لا تبني استراتيجياتها على:
سني وشيعي
أكثرية وأقلية
دم ونسب
بل على:
المصالح
الاستقرار
القدرة على ضبط الفوضى
حماية طرق التجارة والطاقة
خلق بيئات آمنة للاستثمار
من يتخيّل أن الولايات المتحدة أو حلفاءها وشركاءها يختارون شركاءهم على أساس “الهوية الدينية”، إنما يفكّر بعقل الجماعة، لا بعقل الدولة.
ثانيًا:
«إسرائيل» ليست فاعلًا مستقلًا كما يُصوَّر
والحديث عن أن “إسرائيل تريد” و“إسرائيل تقرر” بمعزل عن السياق الدولي هو تبسيط مخلّ، بل قراءة سياسية ساذجة.
لأن “إسرائيل”جزء من منظومة غربية أوسع
وأداة نفوذ أكثر منها مركز قرار مطلق
تتأثر بالتحولات الأمريكية والأوروبية والآسيوية
والتحوّل الحقيقي اليوم لا يتعلّق بهوية القائد، بل بالانتقال من منطق الحرب الدائمة إلى منطق الاستقرار والتنمية الاقتصادية.
ثالثًا:
ما يتغيّر هو شكل الشرق…
لا طوائفه
والتحوّل الجاري في المنطقة لا يدور حول:
من يحكم باسم أي طائفة
بل هوحول:
كيف نُنهي الفوضى
كيف نُعيد بناء الدول
كيف نُدخل المنطقة في دورة تنمية حقيقية
فالشرق الأوسط الجديد – إن صح التعبير – ليس مشروع:
هيمنة
ولا تصفية حسابات دينية
ولا إعادة إنتاج استعمار قديم
بل محاولة متأخرة لإنهاء قرنٍ كامل من الحروب المفتوحة.
رابعًا:
مشروع الشرق الجديد الذي تطمح إليه كل المكوّنات والشعوب
ليس اصطفافًا…
بل تحرّرًا
مشروع الشرق الجديد الذي تطمح إليه كل المكوّنات والشعوب:
لا يُعادي دينًا
لا يُقصي مكوّنًا
ولا يختزل الإنسان بهويته
هو مشروع:
محبة لا كراهية
شراكة لا تبعية
تنمية لا عسكرة
سلام يحفظ الكرامة، لا إذلالًا مقنّعًا
نحن لا نبحث عن:
“قائد سني”
أو “زعيم شيعي”
أو “واجهة مسيحية”
بل عن دولة تحترم الإنسان، أيًّا كان دينه أو قوميته.
خامسًا:
الطائفية هي آخر أدوات العاجزين
فحين تعجز العقول عن قراءة الجغرافيا السياسية،
تلجأ إلى الطائفة.
وحين تفشل المشاريع،
تُستحضر الغرائز.
لكن الشرق الذي نطمح إليه ونعمل من أجله:
لا يُبنى بالغرائز
ولا يُدار بالخوف
ولا ينهض بالكراهية
ولا يمكن ان يولد بالطائفية .
خلاصة القول :
الشرق الأوسط الجديد الذي نؤمن به:
لا يُبنى ضد أحد
ولا لصالح دين ضد دين
ولا مكوّن ضد مكوّن
بل يُبنى:
مع جميع الأديان
ومع كل المكوّنات
على اساس العدالة والمساواة وسيادة القانون .
وعلى أساس المصالح المشتركة
ومن أجل: كرامة الإنسان، وحريته، وسعادته.
أما من يُصرّ على قراءة المستقبل بعين الطائفة، والطائفية والقبيلة والقبائل .
فهو لا يرى شرقًا جديدًا…
بل يُعيد إنتاج خرابٍ قديم بلغة مختلفة.
ثانيا /
حين تتحوّل السياسة إلى طائفية نفتقد الى الواقعية ويفقد التحليل السياسي معناه..
تكمن خطورة الطروحات التي تختزل السياسة في الطائفة، لا في سذاجتها فحسب، بل في كونها تُعيد إنتاج البنية الذهنية نفسها التي أوصلت الشرق إلى الانهيار:
بنية ترى العالم من ثقب الهوية، لا من أفق الدولة.
هذا النوع من “التحليل” لا يقرأ السياسة كما هي،
بل كما يريد لها أن تكون وفق سرديات مسبقة،
فيُسقِط على العلاقات الدولية منطق الجماعة،
وعلى الدول منطق الغريزة،
وعلى المصالح منطق الأساطير.
1. الخلل المنهجي:
قراءة الدولة بعين الطائفة
التحليل الذي يفترض أن الفاعلين الدوليين يختارون شركاءهم على أساس الانتماء المذهبي، هو تحليل يخلط بين الاجتماع السياسي والدولة الحديثة.
فالدولة لا تفكّر بـ:
“من يمثل الأكثرية الدينية”
ولا “من هو ابن الأرض الحقيقي”
ولا “أي طائفة أصلح للحكم”
بل تفكّر بـ:
من يضمن الاستقرار
من يملك قرارًا قابلًا للتنفيذ
من يستطيع ضبط العنف
من يؤمّن المصالح طويلة الأمد
وحين تُقرأ السياسة بعقل طائفي، يصبح التحليل نفسه جزءًا من المشكلة، لا أداة لفهمها.
2. إسقاط المسؤولية على “إسرائيل”:
هوهروب من التفكير الواقعي.
وتحميل “إسرائيل” كل تفسير سياسي، وتصويرها كفاعل مطلق الإرادة، هو تبسيط مريح للعقل الكسول.
في الواقع:
“إسرائيل” ليست عقلًا منفصلًا عن منظومة عالمية
وهي لا تعمل خارج السياق الغربي الأوسع
ولا تقرر وحدها مسار المنطقة..
فالتحوّلات الجارية اليوم أكبر من دولة،
وأعمق من صراع تقليدي،
وهي مرتبطة بإعادة ترتيب النظام الدولي،
وانتقال مراكز الثقل،
والبحث عن شرق مستقر بعد عقود من الفوضى.
ومن لا يرى ذلك، سيبقى أسير سرديات قديمة، حتى لو غيّر لغته.
3. خطورة الطائفية بوصفها أداة تحليل
فالطائفية ليست فقط أداة تعبئة شعبوية،بل حين تتحوّل إلى أداة تحليل سياسي،
تصبح سلاحًا لتدمير العقل.
لأنها:
تُعفي من دراسة الاقتصاد
وتُسقط دور الجغرافيا
وتُغفل توازنات القوة
وتختزل الإنسان في هويته الأولية.
وهذا بالضبط ما يتناقض جذريًا مع أي حديث عن “شرق جديد”.
4. مشروع الشرق الجديد:
نقيض الطائفية لا امتدادها
ومشروع الشرق الجديد الذي تطمح إليه كل المكوّنات والشعوب،
لا يمكن أن يُبنى على المنطق نفسه الذي دمّر الشرق القديم.
فهو ليس:
مشروع أكثرية ضد أقلية
ولا دين ضد دين
ولا جماعة ضد جماعة
بل مشروع:
دولة لا جماعة
مواطنة لا رعايا
قانون لا غلبة
شراكة لا وصاية
وأي خطاب يُعيد إنتاج سؤال “من أي طائفة القائد؟”
هو خطاب يعمل، من حيث يدري أو لا يدري،
ضد هذا المشروع.
5. خلاصة القول :
الشرق الذي نطمح إليه:
لا يُفهم بعقل الطائفة والقبيلة
ولا يُدار بمنطق الغريزة
ولا يُبنى بخطابات التخويف
بل يُبنى:
بالعقل وبالواقعية وبتحرير السياسة من الهويات القاتلة
أما من يُصرّ على تفسير المستقبل بلغة الطوائف والقبائل،
فهو لا يقرأ شرقًا جديدًا،
بل يبحث عن ماضٍ مأزوم ليعيش فيه مجددًا.

















Discussion about this post