قراءة نقدية مزدوجة:
“القصيدة والبدوي العاشق بين الأسطورة والواقع”
فقرة جمع في صيغة المفرد(مبدع/ مشاكس/ ناقدة)
المبدع حمد حاجي(تونس)
القصيدة:” حب بنكهة الشكلاطة”(الشكلاطة يا شكلاتا)
المشاكس عمر دغرير(تونس)
القصيدة:”طعم الشكولاطة كطعم العلف”
أ- المشترك بين الابداع والمشاكسة
– التناص المعجمي
– البدوي
– القفلة
– الاطار المكاني
ب – المختلف بين المبدع والمشاكس:
1 – المبدع حمد حاجي والبدوي العاشق الأسطورة:
يلتقط لنا المبدع مشهد البدوي الذي عاش تجربة حب بالمدينة .
ان هذا العاشق البدوي الذي يسكن المدينة لم يتنصل من بداوته حين تهيأ
في هيأة بدوي في لباسه .والبدوي له دلالته في صدق مشاعره وتحمّسه للحب وتأجّج عاطفته ونقاوة تفكيره وصفاء قلبه حتى انه شخّص الشوق الى الحبيبة ليكبح جماحه وليتحلىّ بالرصانة وهي طباع البدوي العاشق.
بيد أن الشوق منعه وواصل السير للقائها وهوبين رصانة البدوي وجرأة الحضري وهو بين الخوف من الوشاة وحرصه على المحافظة عليها.. يقول:
أخاف
عليها الوشاة لكون الذي بيننا
مثل الدر في الصدف
أخي ..أجارك ربي من الرقباء
فذا الهوى
يتكلم في الصلب ..والنطف..
وكنت أقدمها في الشؤون جميعا..
كبسملة
عند رأس الكتاب والصحف..
ان هذه الطباع ذات المرجعية الدينية( الصلب والنطف/ الكتاب والصحف) وكذلك الخوف من الوشاة تجعله لا يستطيع التنصل من بداوته ومن طبعه الذي شبّ عليه لذلك قد طبعت حبّه بأخلاق البدوي.
ان هوى هذا البدوي مسكون في جيناته وفي تركيبتها تماما كما ينشأ الجنين من بين الصلب والترائب او الصلب والنطف.
والصلب مقرون بالترائب المذكورة بالآية 7 من سورة الطارق (يخرج من بين الصلب والترائب) لكن الضرورة الشعرية جعلت الشاعر يستبدل الترائب بالنطف
انه صلب الرجل وترائب المرأة وهو أصفر رقيق لا يكون الجنين الا منهما.
بيْد ان المبدع جعل الحبيب البدوي يتحدث عن الكعب وعن العطر وهما مؤشران لهما دلالة حضرية يعني أن هذا البدوي العاشق أحب امرأة حضرية .
وفي هذا الاطار نراه قد تطبّع بطباع الحضر في شراء هدية للحبيبة وهي الشوكولاطة لكن طبعه البدوي قد غلب عليه وعوض أن يغلف الشكولاطة بغلاف جذاب وأنيق نراه وضعها وخبأها في العمامة خوفا من التلف وهذا يشي بنقاوة تفكير البدوي وتلقائيته حدّ السذاجة ..فيقول:
وعجت اشتريت لها الشكلاطة
خبأتها في العمامة
خوفا من التلف
والحبيب البدوي بقدر ما تشبث ببداوته في التشبث بلباس البدوي للقاء الحبيبة وتلقائية البدوي وسذاجته والتحفظ من الوشاة بقدر ما يسعى الى التطبع بعادة الحضر في تقديم الشكلاطة كهدية للحبيبة لما لها من رمزية عند أهل الحضر:
لقد اقترنت الشوكولاطة بعيد الحب وهو مثال للمتعة واللذة والرغبة في الآخر.
وترمز الشوكولاطة الى الرفاهية والراحة والاثارة والاشباع والحبّ وقد استخدم الناس الشوكولاطة منذ العصور القديمة كرمز للحب والرومانسية وبذلك أصبح اليوم العالمي للشكولاطة هو عيد الحب الجميل.
وهنا قد يتفاعل المتلقي مع الشاعر الذي اختار الشوكولاطة هدية لحبيبته ويذكر ان موقع” بيزنس اينسايدر ذكر: “ان تناول الشوكولاطة يؤدّي الى اطلاق الدوبامين وهو ناقل عصبي يثير الشعور بالسعادة في مناطق معينة من الدماغ وتعتبر الشوكولاطة في قائمة افضل 10 أطعمة معروفة بقدرتها على انتاج “الدوبامين” في الدماغ.
الى الآن نلاحظ ان شخصية الحبيب لم تكتمل بعد والشاعر في ذلك يسعى الى جعلها تكتمل قطرة قطرة تشويقا للمتلقي لكن المبدع وكأنه استعجل هذا الحبيب البدوي المتيّم بحبيبته .
وكأني به قد أراد ان ينتشل هذا الحبيب من تباطؤه وغفلته وبساطة عقله بان جعله يُلملمُ نشاطه ويسرع الخطى ليلاحق الحبيبة لكن دون جدوى فقد ضيّعها في الزحام (والزحام يشي بزحام المدينة أين خاض البدوي تجربة حبه) وتفطن أخيرا لقلة حيلته ..انها سذاجة البدوي العاشق فيقول:
وساعة ضيعتها في الزحام
تشمّتت في قلّة حيلتي ..ملت للشكلاطة
كأني أدمي الأنامل عضا من الأسف
وهنا تكتمل شخصية الحبيب البدوي البسيط والساذج الذي أضاع حبيبته كما خسر الشكلاطة التي سماها الشاعر في العنوان “يا شكلاتتا” وكأني بالشاعر يتعاطف معه حين جعله ينهال على الشكلاطة وكأن بذوبانها يدمي أنامله عضا من الأسف.
ان المبدع حمد حاجي قد التقط لنا بكاميرا شاعريته لقطة من اليومي للحبيب البدوي بالمدينة فصنع منه أسطورة “البدوي العاشق بالمدينة الذي عانق في حبّه الكبير الصادق عدة صفات من بساطة وسذاجة وتراخ وقلّة حيلة مما جعله يضيّع حبه. رغم ما تطبّع به بالمدينة من بعض العادات لكن الطبع غلب التطبع .
لقد صنع لنا المبدع حمد حاجي أسطورة البدوي العاشق بالمدينة ولعل هذه الاسطورة شبيهة الى حدّ بأسطورة ” البرجوازي النبيل” في مسرحية مُوليار الكوميدية الشهيرة ووجه الشبه أن البورجوازي يتطلع الى النبلاء والبدوي العاشق يتطلّع الى الحضري العاشق:
« Le bourgeois gentilhomme »
في هذ الاطار ما رأي المشاكس عمر دغرير في أسطورة البدوي المتبرجز في الحب؟؟؟
=== يتبع ===
=== يتبع ===
2- المشاكس عمر دغرير والواقع مع البدوي:
استهل المشاكس قصيدته بما يتعارض واستهلال المبدع لقصيدته :
لئن تشبث البدوي العاشق بلباسه البدوي وهو يتهيّأ لمقابلة الحبيبة الحضرية فان المشاكس أثبت تنصّل المبدع العاشق من بداوته..يقول:
تنصلت من بداوتك
وتهت في المدينة
بحثا عن رغد العيش والترف..
ان المشاكس لا يخفي عنا نبرته المتهكمة من المبدع الذي أغرته أضواء المدينة
الى حدّ التيه فيها وكأني بالمشاكس يشمت فيما حدث له وهو يتطبع بطباع أهل
المدينة ويتنكر لحبه الاول (سعدى) .فيقول:
وذاك الريف غادرته
وتركت سعدى حزينة
ونسيت أهل العز والشرف…
لعل المشاكس يشير هنا الى ثنائية التجذر والانبتات.
هل ان المبدع قد انْبتّ من وسطه الريفي وتعالى عن المراة الريفية حين خطفت انظاره اضواء المدينة.
لعلّ هذا البدوي المنبت يذكر القارئ برواية “المُنْبت “للروائي عبد المجيد عطية
حيث عالج فيها قضايا الشباب المثقف الذين اختاروا الهجرة الى خارج الوطن فعاشوا الانبتات والضياع الروحي.
يبدو أن المشاكس يلمّح الى ذلك حين اعتبر المبدع قد تنصل من بداوته.
وأكثر من ذلك فهو يراه قد تطبّع بأخلاق أهل المدن الموسومة بالمجون والفساد
من خمر ونساء. وكاني به يرى النقاء والطهارة حكرا على أهل الريف.
لعل المشاكس يجعل المبدع بين الغدر والخيانة والخمر والنساء ليضعه أمام الامر الواقع وهو يشخّص وضعه المزري ليستفيق ويستيقظ من كابوس المدينة ويعيد النظر في وضعه ويعود الدرّ الى معدنه.
ان المشاكس بلهجة ساخرة يصور لنا مشهدا كاريكاتوريا للمبدع وهوبين الحانات وملاحقة النساء ومعاكستهن وهن بين استجابة ورفض له ساخرات منه بابتزاز ماله و قد ذاق الأمرّيْن حتى استوى لديه طعم الحلاوة والمرارة فيقول:
وأمضيت عمرا في المدينة
حتى صرت لا تفرق بين
طعم الشكولاطة والعلف…
وفي هذا الاطار لئن صنع المبدع أسطورة البدوي العاشق والمتجذر في بداوته مظهرا وجوهرا فان المشاكس فد صنع أسطورة البدوي الماجن والمنبت تنصّلا من بداوته أخلاقا وسلوكا .
ويختم المشاكس بقفلة مدهشة تكسر أفق انتظار القارئ فيجعله يعود الى ريفه لا يحمل شيئا باليمنى واليسرى حبلى بالأسف.
كأني بالمشاكس وهو يسوّي بين اليمنى واليسرى في السلبية يحْرمُ المبدع حتى من بركة اليد اليمنى المذكورة في القرآن وهي من اليُمْن والبركة. فيقول:
واليوم عدت لريفك
لا شيء تحمله باليمنى
واليسرى حبلى بالأسف..
لقد ختم كل من المبدع والمشاكس قصيدته بشعور الأسف :
– ختم المبدع قصيدته بشعور الأسف حين تأسف البدوي العاشق من قلة حيلته لأنه ضيع حبيبته وسط الزحام.
– ختم المشاكس القصيدة بشعور الاسف الذي انتاب المبدع عند عودته للريف بخفي حنين :
– لعل هذا الشعور بالأسف لجبْر خاطر سعدى التي هجرها وتركها حزينة .
– لعله اعتراف ضمني بنيته في رفض كل انبتات ايمانا منه بواجب التجذر في واقعه بالريف.
لئن جعل المبدع حمد حاجي البدوي العاشق متجذرا ببداوته وهو بعيد عن الريف
فان المشاكس عمر دغرير قد يجعل المبدع البدوي العائد الى ريفه متجذرا بالعودة اليه والقرب منه.
ولئن صنع المبدع من البدوي العاشق أسطورة وهو بعيد عن الريف فان المشاكس قد صنع من المبدع أسطورة في عودته الى واقعه بالريف تجذرا فيه.
سلم القلمان ابداعا ومشاكسة أسطورة وواقعا وتجذرا بالبعد أو بالقرب.
بتاريخ 22/ 02/ 2025