ما ابهى هذا النقد
استكشاف للرؤى واستبطان للمعاني ورؤية نقدية عميقة للنص تظهر دلالاته واشراقاته الفنية
فانظروا كيف يحلل قصورتي (رمال) الكبير رياض عبد الواحد بطريقته المدهشة ويجعل من التقد نصّاً على نص وجمالاً على جمال:
قراءة وتأويل في قصورة ( رمال ) للشاعر علي الامارة
الرمل والموج: جدلية العشق
والصحراء
رياض عبد الواحد
مقدمة
تمثل هذه القصيدة تأملاً شعريًا عميقًا في العلاقة بين الإنسان والصحراء، إذ تتحول الرمال إلى كيان حي يبوح بأسراره ويخفيها، والموج إلى كائن يتفاعل مع الأرض عطشًا وارتواءً. القصيدة ليست مجرد وصف للطبيعة، بل هي استبطان فلسفي للعلاقة بين الامتداد والانتماء، وبين الجفاف والعشق، وبين المتحرك والثابت. إنها قصيدة تتجاوز حدود المكان لتُحلّق في فضاء دلالي أوسع، يوظف الاستعارة والرمز والتماثلات الصوتية لخلق نسيج شعري متماسك تتقاطع فيه عناصر الطبيعة مع العاطفة الإنسانية.
الثيمة الرئيسة للقصيدة
تتمحور القصيدة حول ثيمة العشق كحالة تماهٍ بين الصحراء والبحر، وبين الرمل والموج، إذ تنبني رؤية الشاعر على أن الرمل ليس مجرد مكون طبيعي بل حامل للذاكرة، والموج ليس مجرد حركة مائية بل رسول للعشق والتواصل. هذه العلاقة الجدلية بين الرمل والموج تعكس صراعًا داخليًا بين الثبات والحركة، وبين التوق والاحتضان، ما يجعل من الصحراء فضاءً حيًا، والماء شريكًا في قصيدة الحب والوجد.
الصور الشعرية والبلاغية
تقوم القصيدة على مجموعة من الصور التي تنبني على الاستعارة والتشخيص، مما يمنح الرمل والموج طابعًا إنسانيًا:
“لنا من كلامِ الرمل ما يكتمُ الرملُ”
الرمل هنا ليس مجرد مادة صامتة، بل كائن لديه كلام وأسرار، لكنه يخفيها. هذه الصورة تستدعي فكرة أن الصحراء تحمل في رمالها ذاكرة التاريخ وصمت الأزمان.
“ونحن نرى في الرمل سحرَ جنائنٍ / تنزُّ من الشوق القديم وتنسلُّ”
المفارقة هنا تكمن في الجمع بين الرمل (الجفاف) والجنائن (الخضرة)، وكأن الشاعر يرى في الصحراء سرًّا خفيًا من الجمال الذي يتجاوز ظاهرها القاسي، وهو سحر ينزّ من “الشوق القديم”، مما يمنح الرمال بُعدًا عاطفيًا.
“وجئنا بها للبحر نعطيه درسَها / وقلنا له إن الرمال هي الحلُّ”
الرمل هنا يصبح معلمًا للبحر، وهو انقلاب دلالي يعكس فلسفة الصحراء كحكمة عميقة تتحدى طبيعة البحر المتقلّبة.
“أغازلها صمتًا فينأى يباسها / ففي كلّ يومٍ بالمحبّةِ تبتلُّ”
العلاقة بين العاشق والصحراء تأخذ طابع العشق الصامت الذي يروّض الجفاف بالمحبة. الصورة هنا قائمة على تناقض ظاهري (المحبة مقابل اليباس)، لكنها تعبّر عن رؤية صوفية للحب القادر على إحياء اليابس.
بنية الانزياح الشعري
الانزياح في هذه القصيدة يتجلى في أكثر من مستوى:
الانزياح الدلالي
تحويل الرمل والموج إلى رمزين متفاعلين، حيث يصبح الرمل كائنًا نابضًا بالعشق، والموج ليس مجرد ماء بل شريك في لغة الحب.
الانزياح التركيبي
اللعب على التقديم والتأخير مثل “لنا من كلام الرمل ما يكتم الرمل”، إذ يُقدَّم الخبر على المبتدأ لإحداث وقع موسيقي ودلالي أكثر تأثيرًا.
الانزياح الاستعاري
مثل “ابعث موجي كي يداعب رملها / وأسقيه من ريق البداوة كي يحلو”، فتتحول العلاقة بين الرمل والموج إلى علاقة جسدية حسية، كأن البداوة نفسها تملك “ريقًا” تسقي به البحر.
التماثلات الصوتية في القصيدة
يقوم الإيقاع في القصيدة على تماثلات صوتية متميزة، من أبرزها:
التكرار الداخلي
مثل تكرار المفردات ذات الجرس القوي: “الرمل”، “الموج”، “الشوق”، ما يخلق إيقاعًا دائريًا يعزز من حضور الصحراء كعنصر ثابت والموج كعنصر متحرك.
التجانس الصوتي بين الكلمات المتقابلة
مثل “الرمل” و”الحلّ”، و”الموج” و”الوصل”، حيث تلعب القافية على فكرة الاتصال والانفصال، مما يعكس فلسفة القصيدة ذاتها.
القافية الموحدة والانسيابية الموسيقية
القافية المستقرة في أغلب الأبيات تعطي القصيدة تناغمًا خاصًا، ينسجم مع الجوّ الصحراوي الذي يفرض نوعًا من الإيقاع الهادئ والمستمر.
البعد الرؤيوي والمنهجي في القصيدة
القصيدة تنتمي إلى تيار شعري يمزج بين الصوفية والواقعية الرمزية. الصوفية تظهر في تماهي الشاعر مع الرمل كحالة عشق مطلق، بينما الواقعية الرمزية تتجلى في استخدام الصحراء والبحر كرمزين للعلاقة الإنسانية بين الثبات والحركة.
ان البحر في القصيدة ليس مجرد ماء، بل هو رمز للتغير والتحدي، بينما الصحراء رمز للهوية والرسوخ، وهذه الجدلية تحاكي صراع الإنسان بين الانتماء والتوق إلى التجدد.
الاستعمال المجازي والرمزي للغة
المجاز في القصيدة ليس مجرد زخرفة بلاغية، بل هو عنصر تأسيسي للرؤية الشعرية. يمكن تقسيم الاستعمال المجازي إلى ثلاثة محاور:
المجاز المكاني
البحر ليس بحرًا، بل هو فضاء مفتوح للمواجهة والتعلم، والصحراء ليست أرضًا قاحلة، بل هي أمٌّ تُعلِّم وتغدق بالمعرفة.
المجاز العاطفي
الحب في القصيدة ليس حبًا بشريًا مباشرًا، بل هو تجربة روحية تتجاوز الزمان والمكان، حيث تتخذ الصحراء دور الحبيبة والموج دور العاشق المسافر إليها.
المجاز الفلسفي
الرمل والموج يتبادلان الأدوار، مما يعكس فكرة نسبية الصعوبة والسهولة، حيث يقول البحر: “وما كان صعبًا فهو في عرفها سهلُ”، وهو تأكيد على أن التحديات ليست مطلقة بل تخضع لمنظور التجربة والمعرفة.
خاتمة
هذه القصيدة ليست مجرد تأمل في الرمل والموج، بل هي إعادة قراءة للعلاقة بين الثبات والتغير، بين الذاكرة والمستقبل، بين الهوية والانفتاح. إنها قصيدة تقوم على ثنائية فلسفية يتداخل فيها البعد الواقعي بالبعد المجازي، ليصنع الشاعر من الصحراء معشوقة، ومن البحر عشيقًا، ومن الموج رسولًا للحب. إن هذا البناء الشعري العميق يجعل من القصيدة سفرًا في أفق مفتوح، حيث تتحول الرمال إلى لغة، والموج إلى استعارة للحوار بين العاشق والمعشوق.
النص الاصلي
قصورة..رمال
لنا من كلامِ الرمل ما يكتمُ الرملُ
ونوهمُ انّا ليس في رحلِنا حِمْلُ
ونحن نرى في الرمل سحرَ جنائنٍ
تنز ُّ من الشوق القديم وتنسلُّ
وكلُّ مهبّات الرياح صديقةٌ
فإن عصفتْ يهفو لنا وجههُا الخِلُّ
وكانت لنا الصحراءُ محضَ انطلاقةٍ
فنحن لها صحبٌ ونحن لها أهلُ
وجئنا بها للبحر نعطيه درسَها
وقلنا له إن الرمال هي الحلُّ
فقال لنا هذي امتدادُ ملوحتي
وما كان صعباً فهو في عرفِها سهلُ
أغازلها صمتاً فينأى يباسها
ففي كلّ يومٍ بالمحبّةِ تبتلُّ
وابعث موجي كي يداعبَ رملها
وأسقيه من ريق البداوة كي يحلو
أقول له أرجوك ارفقْ بذكرِها
فإنّي اذا اعتلّتْ من الشوق أعتلُّ
فما الرمل الّا للغرام رسائلٌ
وما الموج الّا ما يجود به الوصلُ
لنا رايةٌ حمراءُ تنهب ُ خطوَنا
فلا تعذلي العشّاقَ يوماً اذا زلّواقراءة